احترام قدسية المدينة في ضوء مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

البحوث

احترام قدسية المدينة في ضوء مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر  

التدريسية جمانة جاسم الاسدي

في الوقت الذي تُعّد فيه مدينة كربلاء من أكثر وأهم المدن المقدسة لدى المسلمين الشيعة، وصفة التقديس هذه ما هي إلا صفة مرتبطة أرتباطًا وثيقًا بالدين الإسلامي، كون ان هذه المدينة تضم أضرحة ومراقد ثوار معركة الطف الشهيرة، إلا أن ما يحدث في الأونة الأخيرة بدأ يتعارض مع هذه القدسية، لأن الناس أصبحوا يمارسون سلوكيات تنافي الالتزامات الدينية المفروضة على المسلمين عامة إلى الحد الذي أصبحت فيه المجاهرة بالعصيان هو ممارسة لحرية شخصية! والإنحلال الخلقي ديمقراطية مرجوة!

يقصد بالمكان المقدس هو ظهور العلاقة الوطيدة والارتباط الروحي بين الإنسان والمكان، فهناك ارتباط بين الانسان وبين من تضمهم هذه الأماكن من أشخاص، ومن ثم إمتداد هذا الارتباط أو هذه العلاقة إلى المكان في حد ذاته، كارتباط المسلمين مثلًا بالأنبياء الأولين (ادم، إبراهيم) اللذين قاما ببناء الكعبة الشريفة، وهي المكان الأشهر والأكثر قداسة وطهارة لدى معتنقي الديانة الإسلامية، والأرض المقدسة هنا تعني الأرض الطاهرة الخالصة، فيجب ان تكون السلوكيات والمظاهر المصاحبة للتواجد والعيش في هذه الأماكن وفقًا لمنهاج القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والمتوارث عن الائمة المعصومين عليهم السلام، للحفاظ على الهوية الإسلامية ونشر المظهر القويم والصورة السليمة لهذه الديانة، عبر الالتزام بما يوافق ولا يعارض ثوابت الإسلام فيها.

فالفكرة أذن مستمدة من إقامة أماكن دينية مقدسة تستمد وجودها من وجود الرمز الديني المجسد لمبادئ الأديان السماوية، ومصدر هذه الفكرة هو الأرتباط الروحي باشخاص ذلك المكان وليس المكان بحد ذاته، فمن هي كربلاء لولا الحسين (ع)؟ مثلًا.

كما ان النظم الدينية المقيدة للتصرفات الإنسانية تعالج قضايا الإنسان الفكرية والروحية والاجتماعية من اعتقاد وسلوك وإيمان وتعامل، أي ان هذا الارتباط الروحي بالمقدسات نافع نفعًا محضًا، لأنه يوجه الفرد نحو الامتثال للإسلام وتعاليمه من فكر ومبادئ وعقيدة، ويقّوم كل السلوكيات التي من شأنها ان تجعل مساره في التقرب إلى الله تعالى وحده، وإلا فلا عبرة بالمقدس ان لم يكن سبيلًا لله، ولا قدسية له.

فيما لو تمعنّا في خصوصية الأماكن المقدسة وكونها ظاهرة دينية مميزة ولها قيمة معنوية اعتبارية عالية، فهذا يرجع إلى كون الأماكن ستأخذ الأهمية التي أولتها أياها الديانات السماوية وأعطتها مكانة سامية، فوجود المراقد المقدسة لها أهمية كبرى، ومكانة خاصة، فهي التي تعكس وتسجل أحداثًا تاريخية في لبداية ظهور هذه الديانات أو الدافع لديمومة وجودها، وعلى الرغم من أن المكان المقدس هو مساحة مكانية صغيرة إلا أنه ذو أهمية عظمى في نفوس الناس بشكل عام وفي نفوس المؤمنين بشكل خاص، لتصبح له اهداف أخرى غير التي بدأ منها.

ومما لا شك فيه أن كل فعل منافِ للتعاليم الدينية يخل بقدسية المدينة، فضلًا عن بعض العادات السيئة التي طرأت على المجتمع حديثًا والتي يجرمها القانون في الوقت نفسه، كما في بيع وتعاطي المخدرات والخمور، والاجهار باستعراض مقاطع من الأفلام الإباحية أو الصور الخلاعية في الشوارع وعلى جدران المباني، وإقامة الحفلات الموسيقية الراقصة، وعدم ارتداء الحجاب الشرعي، وفتح مراكز ونوادي وصالات للعب الورق والقمار ومصارف للربا والفوائد الفاحشة وغيرها من الظواهر المخالفة للدين الحنيف.

وهنا نرى أنه كان لابد من أظهار الامتعاض الشديد والتحرك الجدي لمحاربة مثل هذه الحالات السلبية التي لا تمت للدين الاسلامي بصلة ويُخشى على المجتمع من الانجرار إليها والمشاركة فيها.

وبالرجوع إلى ابجديات الفكر الإسلامي واولوياته، سنجد ان اتباع مبدأ وقاعدة عامة من قواعده هي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا مجال للتقصير أو التواني والتهاون فيها، فهذا المبدأ والذي يضع مسؤولية دينية وأخلاقية أمام كل التصرفات التي تعارض القيم الإسلامية في كل مكان مقدس أو غير مقدس، ومصداق ذلك في قوله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (سورة آل عمران، الآية 104)، وقال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (سورة آل عمران، الآية 110)، ويشير التفسير الظاهري للآيات الكريمة إلى وصف من قام بهذه الأعمال لهم الفلاح المطلق لقاء قيامهم ودعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر طاعة لله وتنفيذًا لأوامره.

وان هذا المبدأ مؤثر في الشخصية الفردية والمجتمعية على حدٍ سواء، فلابد للفرد ان يستنأنف دوره في القيادة الأخلاقية والنهوض باحترام قدسية المدينة التي تحتضن اضرحة ومراقد هؤلاء الابطال لتحقيق الصلاح المطلوب، من خلال النصح بالرفق وعدم العنف والكلام الطيب مع من خالف، كما في قوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..." (سورة آل عمران، الآية 159)، فهو أذن تكليف من الله عز وجل، ولا يعد النهي عن المنكر تعديًا على الحريات بل هو تقييد شرعي لها، فالمسؤولية هنا في الأصل هي مسؤولية فردية لكن لا تلغي المسؤولية الجماعية من المتابعة والملاحظة طبعًا.

كما أن الانسان المؤمن والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى الله يجب ان تكون في مقدمة اعمالة الاهتمام بالمصالح الكبرى لدينه، ويستعمل قدرته بالحكمة والأسلوب الحسن وينظر إلى عواقب الأمور وليس إلى ظواهرها فقط، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان"، فحماية الدين ومحاربة السلوكيات السلبية التي تنتهك الدين الإسلامي وتعرض الفرد والمجتمع لسخط الله وعذابه وعقابه، واجب، وبحسب المستطاع.

لإجل ذلك وأكثر ذهبت الحكومة المحلية في محافظة كربلاء المقدسة متمثلة بمجلسها عام 2012م بتقديم مشروع قانون قدسية المدينة، ولكنه قوبل بالرفض والاعتراض على بعض مواده بزعم مخالفتها للنصوص الدستورية الإعلى منها درجة، وكان من المقرر ان يدخل هذا القانون الخدمة عام 2017م بعد التعديلات التي أجريت عليه، إلا أن ذلك لم يحدث إلى الآن، حيث واجه تحديات من بعض التشريعات والأفراد المطالبين بالمدنية والتحرر والديمقراطية، واقفين تحت مظلة الحرية الشخصية المبهرجة ينتظرون الفرصة للرقص على جراح شهداء الطف! متناسين من هو الحسين (ع)؟ لمّ جاء؟ ولمن؟!

عليه أصبح لزامًا على أصحاب الاختصاص والدراية والبصيرة، من أهل العلم ورواد المؤسسات الدينية والأكاديمية التصدي لهذه المسألة الحساسة، من خلال التعامل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتعزيز الهوية الإسلامية للمحافظة للحفاظ عليها، كما نجد ضرورة ملحة لتفعيل قانون خاص بالمدن المقدسة لضمان احترامها كما ينبغي وعدم التعدي على حرمتها، وهذا التشريع يجب ان يشمل كل الأماكن التي توجد فيها أضرحة للانبياء والائمة الاطهار (عليهم السلام) في عموم العراق، لأنه بات من الضروري إقرار قانون يحافظ على مبادئ الإسلام ويصون فكرة الترابط الروحي والقيم الأخلاقية معها، للقضاء على جميع أشكال المخالفة للدين الأسلامي والمجاهرة بمعصية الله، ومنها -كما أسلفنا- بيع وتناول الخمور والمسكرات والمؤثرات العقلية، وظاهرة السفور، والجهر بالغناء، والحفلات الموسيقية، ونشر الصور الاعلانية الخلاعية على واجهات المحلات التجارية وجدران المباني، وما أسوءها من صورة يعكسها هؤلاء عن معتنقي الدين الإسلامي، وما أجملها من حرية بعين من يحلم بطمس الإسلام وأرجاعه لغربته الأولى.