استراتيجية تحول العراق الى دولة فاعلة (المسارات السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية – الثقافية)
د. ايناس عبد الهادي مهدي الربيعي
مركز وطن الفراتين للدراسات الاستراتيجية
رغم الظروف التي مر بها العراق خلال العقود الاربعة الاخيرة من الحروب والعقوبات الدولية وانعدام الاستقرار السياسي والتي خلفت ارثا من العنف والحروب والفقر وعدم الاستقرار وضعفا شديدا للحكم والهشاشة مع فقدان الكثير من اسس السلام المجتمعي لتتفاقم اوضاع البلاد مع تفاقم الفساد وسوء الادارة على كافة الاصعدة بما مثل عدم الاستقرار السياسي والضغوط المالية والتي اثرت على قدرة قطاعات الصحة والتعليم والقدرة على تقديم الخدمات للناس، وهو ما اظهر الحاجة الماسة لتصحيح المسارات على كافة الاصعدة في العراق وخروجه من كافة تلك الازمات، وبما ان العراق يمتلك فرص التحول وتحسين الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية نظرا لما يمتلكه من ثروات طبيعية وبشرية وثقافية ليكون السعي لتشخيص تلك التحديات التي تواجه تحول العراق لدولة فاعلة في محيطه الاقليمي والدولي بدءا من خلق بيئة مستقرة داخليا عبر خطوات تتبعها الحكومة تنطلق من تحديد الفجوات والتي تعترض تحقيق ذلك الهدف من اجل توجيه الجهود لردمها بالحلول المناسبة.
ادى تقلب اسعار النفط وانتشار الوباء الى تضخم المشاكل الاقتصادية في العراق اذ ادت تلك الصدمات المزدوجة الى تعميق الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهو ما اثر بشكل مباشر على قدرة الحكومة على توفير التحفيز المطلوب في ظل اقتصاد يعتمد على النفط بشكل مباشر وهو ما كان احد اهم الاسباب التي جعلت البلاد تشهد اكبر انكماش لاقتصادها منذ عام 2003 بسبب انخفاض الطلب العالمي على النفط والتزام العراق بتخفيض الانتاج تطبيقا لالتزاماته تجاه منظمة الاوبك ليشهد الاقتصاد غير النفطي انكماشا بنسبة تقدر (9%).
استجابة لظروف الازمة وضعت الحكومة العراقية خطة لمواجهة الازمة سميت بالورقة البيضاء تحدد الاصلاحات لمعالجة بعض العوائق التي تقف في طريق النمو المستدام ، ليكون التحدي الرئيسي في المضي قدما في الاصلاحات وسط تعافي اسواق النفط الدولية والحفاظ على اطار اقتصادي مستدام حتى مع تجاوز اسعار النفط حاجز الستين دولار للبرميل سيحتاج العراق الى اتخاذ اجراءات لإعادة بناء حيزه المالي عبر خفض الانفاق غير الفعال وتعزيز الايرادات المحلية لمنع التراكم السريع للديون الحكومية وتقلص النقد الاجنبي وتعزيز القدرة الاقتصادية للصمود امام الازمات والتغلب على التحديات التي طال امدها وتغيير الوضع القائم.
ثروة العراق النفطية مكنته على مدى عقود من الارتقاء لمصاف الدول مرتفعة الدخل لكنها من جانب اخر جعلته في نواح عدة بمؤسسات ومخرجات اجتماعية واقتصادية تشبه اوضاع بلد هش منخفض الدخل ، اذ ادت العائدات النفطية الى تآكل القدرة التنافسية الاقتصادية للبلد وقللت الحاجة لفرض الضرائب واضعفت رابط المسألة بين المواطنين والدولة وأججت الفساد.
لتكشف جائحة كورونا وصدمة أسعار النفط بشكل واضح مقدار ما خسره العراقيون في العقديين الاخيرين ، فنظام تعليمي كان يصنف الاول في الشرق الاوسط وشمال افريقيا بين اقرانه بات قريبا من القعر، ومعدل مشاركة القوى العاملة يقف عند مستوى (42%) مع تسجيل ادنى مستوى لمشاركة المرأة في القوى العاملة مقارنة بدول العالم الاخرى ، ليواجه البلد ادمى مستوى من راس المال البشري وتدهور مناخ الاعمال مع اعلى مستوى لمعدلات الفقر بين سكانه.
وعلى الرغم من كل تلك التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يواجهها العراق في الوقت الراهن الا ان تلك المجالات اذا ما تم التركيز عليها من الممكن تحقيق التحول المرجو على تلك الاصعدة وهو ما سنعمد لتناوله في ورقتنا البحثية تلك.
الاول / على الصعيد السياسي
يقف العراق الان على مفترق الطرق ، بعد مرور حوالي العقدين على حرب عام 2003 مازال البلد واقعا في الهشاشة بمواجهة حالة من عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية المتصاعدة وتزايد الفجوة بين الدولة والمواطن ، اذ ان خلاف النخب السياسية تحول الصراع نحو العنف ليندلع الصراع حول السلطة والموارد ، أضافة لذلك فأن التدخلات الخارجية أسهمت بشكل كبير في الانقسام الداخلي وتحول العراق لساحة تنافس بين قوى عدة اتخذته ساحة لتصفية حساباتها الاقليمية والعالمية الامر الذي انعكس على المطالب الشعبية بما عزز الخلافات على جميع المستويات بما ادى تبعا لذلك الى تأجيج التنافس بين النخب وقويض مسألة الدولة امام المواطن.
يعد العراق رابع اكبر منتج للنفط في العالم اذ يضخ حوال (4,5) مليون برميل يوميا لذا فأن عدم الاستقرار المستمر في العراق ان يؤثر سلبا على انتاج النفط وهو ما سينعكس سلبا على اسواق النفط العالمية مضرا بالاقتصاد العالمي كنتيجة تبعية لذلك فان استقرار العراق يقلل من اعتماد العراق على واردات الغاز الاجنبية وهو ما يتحقق بدعم الحكومة العراقية لجهودها الرامية للحكم الفعال لضمان دعم سكانها والدفاع عن اراضيها ضد التطرف والعنف وهو من شأن استقرار العراق وتحوله لدولة فاعلة .
فوجود حكومة فعالة يرتبط بشرعيتها من خلال اعتماد مبدأ الحكم الرشيد وآلياته من خلال سيادة القانون وشفافية الحكومة وخضوعها للمسألة وهو ما يعد من اهم العناصر الاساسية لاستقرار الدولة ، لذا من المهم تعزيز العلاقة بين العراقيين والدولة ولا سيما ان الفساد قد تخلل في جميع جوانب الحياة في العراق الامر الذي ادى لسوء تقديم الخدمات وهدر هائل للأموال العامة بالتوازي مع استنزاف الاموال من قبل السياسيين الفاسدين ، فالعشرات من الموظفين يدفعون لمشرفيهم في العمل نصف اجورهم من اجل ان لا يحضروا للعمل او الموظفين الوهميين الذين يبتدعهم المشرفون في العمل كي يحتفظوا بعد ذلك بالأجر المخصص بالكامل لتلك الفئة ، او قد يستشري الفساد عبر ابتزاز الشركات او المواطنين واجبارهم على دفع رسوم تعسفية الامر الذي يعرض الاستقرار السياسي على المحك.
الثاني / على الصعيد الاقتصادي
يمتلك العراق ثروة من التنوع والطموح بين شبابه مع ثروة هائلة محتملة من النفط والغاز واحتياطات كبيرة من النقد الاجنبي في بنك مركزي مستقل كان السبب في استقرار العملة العراقية وهو ما يدفع ليكون قوة ايجابية للاستقرار في المنطقة.
كان لاعتماد العراق على النفط أثره الكبير في المحصلات الاقتصادية في البلاد ، فعلى مدى عقود استحوذ قطاع النفط على كامل قيمة صادرات البلاد تقريبا وعلى (90%) من الايرادات الحكومية و(57%) من الناتج المحلي الاجمالي ، لتعمل ثروة العراق على تقويض القدرة التنافسية للبلاد عبر تغذية الارتفاع التدريجي لسعر الصرف ، مع ادى الاعتماد على الثروة النفطية الى عدم اللجوء الى لخلق موارد جديدة من العائدات الحكومية مثل الايرادات الضريبية وهو ما سبب عجز مؤسسات الدولة عن الاستجابة لعملية بناء الدولة وتراجع قدرة الدولة الادارية .
فالخلافات المستمرة للسيطرة على الموارد النفطية يرتبط بنحو وثيق بالسجالات غير المحسومة حول النظام الفدرالي والتي أسهمت هي الاخرى في اعاقة اعتماد قانون ينظم اقتسام الثروات والايرادات وتوزيع الموارد بشكل منصف ، فجمع الايرادات مركزيا دون الاستفادة بشكل فاعل من قبل المناطق المنتجة لتلك الايرادات عظم الخلافات واذكاها ولا سيما حول المناطق المتنازع عليها بما في ذلك محافظة كركوك.
ليعمد التشتت السياسي في الاسهام بأثر بارز في مصداقية الحكومة في تنفيذ التزاماتها على المدى البعيد ، اذ تعمد الحكومة الى تعظيم الايرادات الريعية قصيرة الامد بما يؤثر بشكل مباشر على خصم كبير للعائدات المستقبلية من خلال تفضيل المكاسب الحالية بما يقوض الاستقرار السياسي على المدى الطويل ، وهو ما ولد احساسا بانعدام الامن ليس فقط لدى افراد الشعب بل حتى بين افراد النخبة الحاكمة بما ينعكس على الوضع السياسي تبعا لذلك .
الثالث/ على الصعيد الاجتماعي
العراق لديه مجتمع مدني مزدهر وحيوي ، الا ان العقد الاجتماعي بين النخب الحاكمة والشعب العراقي الامر الذي ادى لاستياء شعبي وتشتت سياسي في البلاد رافعا بذلك حدة الصراع على السلطة مع سعي الطبقة السياسية للحفاظ على الوضع الراهن الامر الذي وسع الهوة بينها وبين دوائرها الانتخابية وكحصيلة لذلك انتشرت الاضطرابات الاجتماعية لتبلغ ذروتها خلال عام 2019م والتي كانت ترتكز في مطالبها على تحسين الخدمات العامة مثل توفير الماء والكهرباء والوظائف ، وهو ما سعت الحكومة الى الان لتوفيره والاستجابة له ، لكن مع انخفاض عائدات النفط وازدياد عدد السكان تشير الى ان الوضع سوف يصبح اكثر هشاشة مستقبلا ، ولا سيما ان دراسة للبنك الدولي صدرت عام 2018 بينت بأن معدل البطالة بين الشباب في المجتمع العراقي تبلغ (36%) مع ميل منتشر بين افراد الشعب الشباب منهم على وجه الخصوص بنسبة (95%) بأن الروابط الشخصية هي من تحدد فرص الحصول على عمل ، وهو ما يثير الشعور بانعدام المساواة بين افراد الشعب بما يسهم في نشوء الصراعات لذلك السبب.
أضافة الى ذلك تعد نسبة البطالة تلك بين الشباب ذات دلائل خطيرة ولا سيما ان استدركنا بأن الشباب يمثلون واحدة من اعلى النسب في العالم كتركيبة سكانية في العراق ، كما يجدر الاشارة الى ان وجود العديد من التباينات في مؤشرات الفقر وتقديم الخدمات ليسود الاعتقاد بين فئات الشعب بأن البلاد مقسمة أكثر منها موحدة ، اذ تبرز قضايا الثقة الاجتماعية كأحد أبرز المشاكل التي تأرق المجتمع العراقي ولا سيما في المناطق المتنازع عليها والمحررة.
الرابع / على الصعيد الثقافي
تعد الثقافة نبض المجتمع فهي التي تشكل الهوية لمجتمع ما من خلال العادات الخاصة بأنماط أقتصادية واجتماعية محددة وبنى رمزية تعكس معناها ، وتعد تلك الهوية في خطر اذا ما تم تجاهل جوانبها الثقافية بشكل لا يمكن من استغلال امكانياتها بتحقيق السلم وعدها قوة دافعة للتنمية ، ومن المؤكد بأن العراق يحتل مكانة مرموقة في التأريخ فهو موطن اختراع الكتابة والعجلة وعدد لا محدود من الابتكارات وهو ما شكل محور الحضارة الانسانية لعشرة الاف سنة ، ذلك الوعي المبكر كان الداعي لانتشار التعليم والتصنيع تلك الفسيفساء التي لونت المجتمع لقرون عدة كانت عنوان لتميز الشعب العراقي لقرون مضت ، وان كانت ترزخ تحت التغييب والالغاء في العقود الماضية الا ان ذلك لم يمنع ان تتشكل في المنفى نمطا من الثقافة في فسحة من الحرية من خلال التأثر بالتجارب العالمية عبر التماس معها بفعل الهجرة وما نتج عنها من عوامل ترك اثرا بارزا على الصعيد الثقافي والمثقفين في المهجر، وذلك عبر الولوج في مواضيع كان من المستحيل الولوج فيها في الوطن بشكل علني آنذاك كقضايا الديمقراطية وتداول السلطة والحريات العامة والمجتمع المدني والطائفية وما الى ذلك من مواضيع تضيق بها قريحة مجتمع المثقفين لكونها ستكون محورا للإدانة ليكون ذلك السبب الرئيسي لهجرة المثقفين الى دول مجاورة كسوريا والاردن ، الا ان مما لا يمكن انكاره ان الثقافة سواء وجدت في الداخل او الخارج وأن اختلفت مواضيعها فمت هي الا دليل على حيوية ومرونة ذلك المجال كأمر متوارث على مر العصور.
يتمتع العراق بمستوى من حرية التعبير كنتيجة حتمية لبزوغ عصر الديمقراطية على البلاد بعد عام 2003 العراق الذي واجه تفككا امنيا كان يواجه تدمير موروثه الثقافي على يد عصابات داعش الذي كان يسيطر على مناطق واسعة من البلاد ، الا ان المسؤولية المشتركة تكون المحرك الرئيسي للتغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عبر تبني ثقافة مشتركة عبر تبني مبدأ التعايش السلمي والتفاهم بين مكونات الشعب لنكون بذلك امام فرصة لتعميق مفهوم التنوع الثقافي والديني والعيش معا بشكل أفضل.
التوصيات
على الرغم من كون العراق مازال يعد قوة مزعزعة الاستقرار في الشرق الاوسط لما يعانيه من تقلبات تترك اثرا كبيرا على الدول المحيطة بوجود مساحات كبيرة تستغلها الجماعات الارهابية والمتطرفة من الدول المجاورة بما في ذلك تنظيم داعش الارهابي ، كما يؤثر عدم الاستقرار في العراق على التعاملات التجارية فانعدام الامن وعدم الاستقرار عرقل مشاريع الاستثمار والتنمية والتي من الممكن ان تسهم في تعزيز الثروة والعمالة والاستقرار في المنطقة على نطاق واسع ، وهو ما يؤثر سلبا من خلال ازدياد الضغوط الاقتصادية والسياسية على الدول المجاورة وبما ينعكس سلبا حتى على الاتحاد الاوربي تبعا لذلك بتأثيره المباشر في زيادة تدفق اعداد اللاجئين العراقيين تزامنا مع تحركات اللاجئين الاقليمية الاخرى.
لذا نجد ان من الاوليات التي يجب العمل عليها لتحول العراق لدولة فاعلة تتمثل في الاتي :
1- العمل لوصول التسوية السياسية في البلاد الى التركيز على اهداف مركزية منها استعادة سلطة مؤسسات الدولة الرسمية وتشجيع التنمية بكافة مستوياتها والذي ينحقق بدءا من اتفاق النخب السياسية على ذلك وصولا لتحقيقه ، ليكون المواطن بذلك اكثر ميلا لمنح تلك النخب الشرعية اللازمة للحكم.
2- العمل على تعزيز الثروات النفطية والموارد العامة والذي يمكن ان يتحقق الانتقال من نموذج توزيعي الى آخر للإدارة المالية الاتحادية على المستوى الفدرالي والذي عادة ما يشار اليه بأنه لعبة صفرية النتيجة فمكسب مستوى معين من الحكومة يمثل خسارة لمستوى آخر، وبما ان تقاسم الايرادات احد أهم أهداف النظام الفدرالي ستكون الخلافات غير محسومة في ذلك النطاق اذا لم يتم العمل الجاد على تعزيز ادارة الثروة النفطية والموارد العامة الاخرى.
3- العمل على بناء الثقة بين الحكومة والمواطن من خلال تعزيز المساءلة على حالات الفساد وتخفيف وطأة مخاطره على الاداء الحكومي بشكل يلمسه المواطن عند الاستفادة من الخدمات العامة والتفاعل مع المسؤولين الحكوميين.
4- الاستجابة لمطالب الشباب في الحصول على وظائف من خلال استيعاب حاجات الشباب العاطلين عن العمل من خلال التحول من نموذج التوظيف العام الى آخر يتمحور حول القطاع الخاص وهو ما تطلب تغييرا في تفكير الشباب الذين يتوقعون الحصول على وظائف في القطاع العام ، على الرغم من ضخامة التحدي الا ان امكانية تحقيقه ممكنة ومتاحة ولا سيما في مجالات البناء والزراعة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة ، وليكون ذلك ممكنا يجب العمل على تطوير مهارات تلك الفئة لتكون مسارات ممكنة التحقيق.