المبعث النبوي وفلسفة قهر الظلام
الدكتورة / آمال علي الموسوي
لقد كان المبعث النبوي هو بداية لرسالة الإعلان الإلهي لبلوغ الانسان مرحلة النضوج ، ليغدو قادرا على التصرف بما يحقق الغاية من خلقه ، فيحمل هذا اليوم في طياته رسالة الإسلام الخالدة ونور الرحمة ، وكان قبل ذلك يمثل حالة من الظلمة الروحية والعقلية والحركية ، فقد كان الرسول الأعظم المعلم للرسالة حيث استوعبها في عقله وقلبه وشعوره وآفاقه فكان يريد ان يعّلم الناس الكتاب ومسيرة التطبيق من خلال فهم النص القرآني ، فقد كان المبعث فلسفة جديدة لبعض المناهج وهي فهم النص وامتداده وافاقه ومفرداته ، وكذلك جعله الله تعالى نورا وولادة الإسلام الكبرى .
وقد تحدثت الآيات القرآنية عن المبعث النبوي في اكثر من آية كقوله تعالى ( هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) وكذلك الآية الكريمة ( كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) وأيضا مصداق ذلك في الآية الكريمة ( لقد منّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) يتضح من هذه الآيات ان الله يحدثنا عن الدور الذي اوكله الى رسوله ، فهذه الافاق المعرفية تمثل الثقافة الجديدة من اجل ان تنفتح عقول الناس وتخرج من الظلمات الى النور ، فكان المجتمع يسوده الضّلال وهو العقل الرافض للمعرفة والهداية وعبادة الاصنام والاوثان .
وان فلسفة قهر الظلام في البعثة النبوية تكمن في فلسفة السلوك الإنساني وحركة المجتمع والتعرف على دروس في الحياة لبناء واقعنا المؤلم حيث نستلهم من البعثة النبوية كيفية الاستعداد لنكون بحجم المسؤولية وهي هداية الامة كم كان الرسول الأعظم (ص) يعيش الغربة والعزلة بين اهله لأنه كان غريب في فكره ونهجه لا يقبل الصورة الصنمية والانحطاط الأخلاقي في السلوك حيث كان يذهب الى غار حراء يناجي ربه ويبكي ويتضرع الى ربه لهداية مجتمعة فقد كانت في بداية الامر دعوة فردية وهذه كانت اول فلسفة لقهر الظلام فكل من يريد اصلاح الناس يبدأ مشواره بالغربة والعزلة ومناجاة ربه وان يعمل بالخفاء ، فلنتعلم منه ان نكون مشروع اصلاح لقهر الظلام ولتصحيح المسارات الخاطئة ، واما الفلسفة الثانية لقهر الظلام فهي التدرج والمرحلية في مشروع الإصلاح ان تبدأ بالأقرب فالأقرب ومصداق ذلك في الآية الكريمة ( وأنذر عشيرتك الاقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فان عصوك فقل إني برئ مما تعملون ) وهكذا يمكن لنا ان نتعلم من الرسول الأعظم لتطبيق ذلك في واقعنا ان نبدأ مشروع الإصلاح من خلال بيتنا او مكاننا العائلي من افراد الاسرة لتكون الام او الاب هو المعلم والمربي والمشرف والمراقب والداعي والمسؤول الأكبر لرسم مناهج وبرامج لمسيرة الاسرة الصالحة لتتحول الاسرة الى اسرة صالحة ورشيدة ويتحول كل فرد فيها الى مشروع إصلاحي اخر يبث أفكاره الصحيحة في المجتمع .
اما الفلسفة الثالثة فكانت تحمل معنى تعليم ثقافة تلاوة القران الكريم وتطبيق الاحكام والايمان بالله فكانت عظمة الرسول ان الله أراد ان يقدم للناس التوحيد لله والايمان الخالص فكان يعطي كل ذلك تدريجيا لان حركة الرسالة في نموّها كانت تفرض ذلك ان يواجه الناس بالتوحيد مقابل الشرك وبشكل حاسم ،وكما في قوله تعالى ( ولا يصدونك عن آيات الله بعد إذ انزلت إليك ) بمعنى انك تابع مسيرتك مهما وضعوا امامك عقبات ومهما واجهوك بكل الوان الاضطهاد ،هكذا نتعلم من الفلسفة الثالثة لقهر الظلام وهو التحمل والصبر والايمان والتحلي بالخلق لإنجاح مشروعك الإصلاحي ، وتحمل العناء من اجل اعلاء كلمة الله العليا .
والسؤال الذي يثار بهذا الخصوص ما هي التأثيرات العملية التي يجب ان نأخذ بها من رسالة الرسول الأعظم في حياتها وما هي المسؤولية الملقاة امامنا ؟
وللإجابة على ذلك كان الرسول الأعظم هو الفكر والحياة والمحارب الشجاع والقائد المنتصر والسياسي القدير والمعاهد الأمين والناطق بالصدق والايمان ، والمضحي في سبيل رسالته ، وما جاء به من منهاج ورسالة لحياتنا فلابد التقيد بها فلم يكتفي الرسول الأعظم بتلاوة آياته بل أضاف الى ذلك صفة المعلم الذي يعلم الناس الإسلام بكل مفاهيمه وافاقه ومصداق ذلك في قوله تعالى ( وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين ) فقد كان التجسيد الحقيقي لهذه الرحمة التي تظهر بأشكال وعناوين مختلفة ، فهو عنوان الأمان لأهل الأرض من عذاب الله تعالى .
وأخيرا ليس لهذه الكلمات أو الفلسفات التي عرُضت في هذه المقالة المختصرة ان تستوعب كل المظاهر الرحمانية التي جاء به الرسول الأعظم ، لكن هذا لا يمنع من القول أن الرسول استطاع في فترة تاريخية وجيزة أن يحقق اعظم الإنجازات وتقديم أروع المفاهيم والدروس والمواعظ والحكم للامة جمعاء، ونرى ذلك من خلال التحول الذي حصل في الامة على جميع المستويات ، فلنكن في هذا الزمان وهو زمان الفتنة ان نستفيد من شعاع النور الذي اظلنا الله تعالى به ببركة النبي الأعظم ، فهي دعوة من الرسول لنبدأ من انفسنا ومن ثم في اهلينا ومن ثم من حولنا لبناء واقع افضل ، فقد كان القدوة الصالحة لكل داعية وكل قائد وكل أب وزوج وصديق ومربي وكل سياسي ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ليكون لنا شرف الاقتداء بالرسول الأعظم كما لنا شرف التطبيق في الواقع العملي بما جاء به الرسول الأعظم ، فالمبعث النبوي فعلا فلسفة حقيقية لقهر الظلام .