مفهوم النية من منظور قراني وقانوني

المقالات

الدكتورة / امال علي الموسوي 
 
المقدمة 
      نجد ان القران الكريم وهو أولى مصادر التشريع أشار الى  اصلاح النوايا والتعامل بالنية الحسنة وأكد على ذلك في الكثير من الآيات ، ومعنى النية هي القصد الى الشيء والعزيمة على فعله ، او هي قصد الانسان بقلبه ما يريد بفعله، فهي اصل كل عمل ولا يكون العمل مثابا الا ان تتقدمها النية ،فهي عزيمة للقلب والخطوة الأولى للعمل ،فهي التي تحدد هدف العمل الذي يقبل عليه الانسان ، فيجب ان تكون كل الاعمال لا يراد بها الا وجه الله ، كما ان النية الصالحة والخالصة لله لها اجر كبير حتى لو لم يقّم الشخص بالعمل الذى نوى على قيامه ، فبها يأخذ اجر النية ، فمفهوم النية في الإسلام لها شأن عظيم فهي روح الاعمال وصلاحها فكثير من الاعمال والعبادات احد شروطها هي النية فمثلا الوضوء والغسل والصيام والصلاة وغيرها لا تحتسب اذا كانت بلا نية ، فاذا نوى الانسان خيرا حصل له خير واخذ اجر ما نوى فالأصل  بالعمل هي النية الصالحة والخالصة ، والاعمال لا تصح الا مع وجود النية .
     كما نجد القوانين العامة والخاصة اشارت وبنصوص صريحة الى مبدأ حسن النية في ابرام التصرفات والعقود القانونية ، وان حسن النية هي إحدى الوسائل التي استخدمها المشرع لإدخال القاعدة الأخلاقية الى المجال القانوني وقد استعمل  الفقه والقضاء حسن النية كمرادف لنزاهة التعامل والأمانة والثقة ، وان من مقتضيات حسن النية القائمة على دعائم أخلاقية ، باعتبار ان حسن النية هو التزام وضابط من ضوابط العدالة العقدية ، التي يهدف بها المشرع تعزيز الجانب الأخلاقي في التعاقد ، فلا يجوز لأي من المتعاقدين الاخلال به ، فقد أوجب المشرع على المتعاقدين الالتزام وهما يبرمان العقد ان تتجه نيتهما الى تنفيذه واتباع الصدق والحرص والأمانة والوفاء في تنفيذ ما التزاما به  وله علاقة بالجانب الديني ، ولا شك ان مبدأ حسن النية لم يكن حبيس حقبة زمنية معينة ، بل عرفته مختلف النظم القانونية ، التي ركزت على اخلاقيات التعاقد . 
مفهوم النية من منظور قراني
  كثيرة هي الآيات القرآنية التي اشارت الى مضمون حسن  النية  ورسخت مفهومها في كافة التصرفات ومن ذلك قوله تعالى ( يأيها الذين امنوا اوفوا بالعقود ) كما في قوله تعالى ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه اجراً عظيماً)  فالنية الصالحة وهي ابتغاء مرضات الله فالعمل لا ينظر اليه من الناحية الكمية او الصورة الظاهرة وانما ينظر الى كوامن العمل وهي النية ، وهناك حديث للرسول الأعظم (ص) ( إنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى ...) كما ورد في وصية الامام علي لابنه الحسن عليهما السلام قال ( فان العطية على قدر النية ) وأيضا نجد قول للإمام علي (ع) وذلك بقوله ( إنما قدّر الله عون العباد على قدّر نيتهم ، فمن صحت نيّته تم عون الله له ، ومن قصرت نيّته قصر عنه العون بقدر الذي قصر ) ،  كما ورد حديث عن الامام الصادق (ع) ( ومن حسنت نيته كثرت مثوبته وابت عيشته ووجبت مودته ) .
كل هذه الآيات الكريمة تشير الى مضمون النية وحسنها وصلاحها والخلوص فيها ، وعليه يجب  التأني والتدبر وعدم العجلة والمحاسبة قبل العمل وحتى قبل النية ماذا نريد من هذا العمل وما هو هدفه ،هل هو خالص لله  ام لا ، فكلما كان العمل خالصا لله زادت درجات العامل بها في الاخرة . 
     ونحن في زمن الصراعات والأزمات يجب علينا ان نراقب اقوالنا واعمالنا وتهذيب نفوسنا والاهم من ذلك هو مراجعة النفس وتذكيرها بآيات القران الكريم والتدبر في تفسيرها واحكامها كي لا تفوتنا فرصه الثواب لأعمال قد نحصل على ثوابها بمجرد النية دون القيام  بها لظرف معين  .
   وبما ان النية تعبير عن الموقف الداخلي وعن التوجه الذاتي التي هي روح الفعل الحقيقية لذلك تكون هناك فوائد للشخص حسن النية وهي زيادة الحسنات ومضاعفة الاجر ونزول السكينة في القلب والاطمئنان ورفع الدرجات كما انها طريق الى التقرب الى الله ، وخصوصا نحن في زمن بحاجة ماسة الى ما يقربنا الى الله سبحانه وتعالى حتى ولو بالنية الخالصة فقط . 
    ونرى من  سبل المعالجة  لهذا الموضوع هو التكثير من النيات الصالحة في كل الاعمال وان كانت صغيرة ، كما يمكن التعدد بالنيات في العمل الواحد  مما يضاعف الثواب ويكتسب اجرا لكل نية تنويها  ويزيد الاجر كما ان للنية الحسنة  لها شأن كبير عند الله والمتميزة بذاتها .
والسؤال الذي يثار في هذا الصدد هو كيف نجعل النية صالحة وخالصة ؟
   وللإجابة على ذلك ان أساس الصلاح في النية هو الإخلاص لله تعالى فمع عدم الإخلاص لا وجود لنية صالحة ولا قيمة للعمل ، وكيف يكون الإخلاص وهنا نجيب أيضا يكون بالعلم والمعرفة والوعي والبصيرة والا فلا يمكن للإنسان ان يعمل العمل الصالح ويكون خالصا لله تعالى فلابد علينا ان نركز في انفسنا ما يقوي النية ويجعلها خالصة وذلك يكون عن طريق قوة الايمان بالله تعالى .
   يتضح لنا ان الشارع أشار الى ان تكون النية هي مقدمة لكل الاعمال وان تكون خالصة لله وصالحة وبها يجزى العبد وينال ثواب الدنيا والاخرة ، كما في قوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ..) 
مفهوم النية من منظور قانوني 
  إن مبدأ حسن النية من المبادئ الأساسية في القوانين كافة ، وان لم تشر القوانين المدنية الى معنى حسن النية ، ذلك انه ليس من مهام المشرع التعريف على الرغم  انه تكرر هذا المصطلح في الكثير من النصوص القانونية وعلى الرغم من الدور الجوهري الذي تلعبه النية في القانون واستلزامها في الكثير من التصرفات والعقود ،والذي يختلف بعض الشيء عن المنظور القرآني ،  فالنية وفقا لذلك  انعقاد العزم على امر معين يرتب عليه القانون اثرا من الاثار ، فهي القوة المحركة للإرادة نحو الغرض المباشر، وهي إرادة متجهة نحو هدف معين ، قد نصت غالبية القوانين المدنية على هذا المبدأ ، والذي يطبق على جميع التصرفات القانونية والعقود ، كما ويعني حسن النية بأنه التطابق بين الأفعال والاقوال فعندما يحصل التوافق بين افعاله ونواياه  فهو مبدأ يحيطه الغموض للكشف عنه ، كما ان المشرع أشار الى النية من جانب واحد الا وهو حسنها تاركا باقي الجوانب المتعلقة بالنية فلم يذهب إلى  أبعد من ذلك ، الا انه سلك مسلك حسن  فيما اوجب على المتعاقدين عند تنفيذ العقد المبرم بينهما ان يكون  التنفيذ بحسن نية  دون اللجوء الى الغش  والخداع  والاهمال والاغفال ،كما يعد هذا المبدأ هو القاعدة الأساسية لتفسير العقود التي يمكن إعمالها من طرف القاضي للتعرف على النية المشتركة لأطراف العقد ، ونأمل من المشرع العراقي الإحاطة بكافة جوانب النية لا من حيث حسنها  فقط وانما صالحها واخلاصها ، كما يجب فرضها ووجوبها في كافة مراحل العقد  وذلك لحماية اطراف العقد ويمكن له  في الكثير من المسائل ان ينتهج في نصوصه القانونية  ما جاء به القران الكريم من  نصوص واحكام والامتثال لها .
    فقد اشارت المادة (150/1 ) من القانون المدني العراقي على انه ( يجب تنفيذ العقد طبقا لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية ) تقابلها  المادة ( 148) من القانون المدني المصري ، وهناك تطبيقات تشريعية  اشارت الى حسن النية ليس فقط في العقود وإنما  في الحيازة والتي لها دور في حل بعض المشكلات العملية التي تعترض إعمال أحكام الحيازة كما في حالة في تملك الثمار بالحيازة حسب المادة ( 1148 ) من القانون المدني العراقي ، وكذلك وردت في احكام المدفوع دون حق فالشرط الأول اذا كان المدفوع له حسن النية  ، وكما ورد  تطبيق اخر في حكم ثمار الشيء والنفقات التي انفقها المدفوع له حسن النية على الشيء بحسب المادة ( 1165 ) . 
      ومن هذه الرؤية الفكرية يتضح لنا أن  مبدأ حسن النية وإن كان من المبادئ الأخلاقية الا ان وضعه في نصوص قانونية ينقله من مرتبة الالتزام الأخلاقي الى مرتبة الالتزام القانوني الذي يرتب آثاراً على اطرافه ، ونرى ان المشرع العراقي حسنا فعل في جعل هذا المبدأ ضمن نصوصه القانونية فهو التزام شرعي قانوني، وانه شريعة أخلاقية باعتبار ان الاخلاق لم تفصل عن قواعد القانون  والذي يجب على المتعاقد بان يكون صادقا وأميناً ويلتزم بعدم الاخلال بهذا المبدأ لان الأصل ( العقد شريعة المتعاقدين ) فالأصل في التصرفات  الصدق بالتعهد والوفاء به لحماية مصالح الافراد . 
     وأخيرا يبدو ان مفهوم النية من منظور قراني كان أوسع من المفهوم القانوني حيث أشارت النصوص فقط الى ان تكون النية ( حسنة ) وكما هو معلوم ان ( الحسن) فهي كلمة تدل على ما هو أخلاقي ومحمود وغير قبيح أو غير مذموم ومرتبط بالخير فقط ، فهو القرار الذي يعقد عليه العزم ثم يترجم هذا القرار الى واقع ملموس في العالم الخارجي ، اما ما جاء به القران الكريم  من مضمون لحسن النية ومن خلال الاستعراض للآيات والاحاديث يتبين انه أشار الى ان تكون النية صالحة وخالصة لله  في كل الاعمال سواء تصرفات مالية ام عبادية  ، بينما القانون  أشار فقط الى موضع واحد هو تنفيذ العقود غافلا مراحل العقود الأخرى كمرحلة المفاوضات ومرحلة ابرام العقود .