العراق في طريق الظلام
نبيل ياسين
مركز وطن الفراتين للدراسات الاستراتيجية . متابعة
ما يشعرني بالأسى واختيار العزلة هو غياب المنطق وغياب العقل وإغفال المصالح الوطنية عن طريق الالتحاق بصراع الاشاعات والايديولوجيات والتمسك بقناعات عاطفية يدفع العراق ثمنها باهضا منذ اكثر من ستين عاما
هذا الصراع لا يقسم المجتمع ويجعل منه أمما وشعوبا وقبائل متناحرة فحسب وانما يقدم العراق ومصالحه مجانا للدول الاقليمية والعالمية لتلتهم ثرواته وتدفع قوى سياسية محلية لممارسة الفساد واعتباره النشاط السياسي الوحيد لها ، مما ينتج عنه ايضا توجيه الأنظار وتركيزها على جهة واحدة ودولة واحدة للتغطية على مايحصل من الجهات الاخرى
يتحدث كثيرون عما يسمونه بالدولة العميقة، وهو مصطلح يخفي حقيقة عدم وجود دولة اساسا في العراق منذ نصف قرن تقريبا حين ابتلعت سلطة حزب البعث الدولة وحولتها الى منظمة حزبية لتكون عصبة عشائرية ثم عائلية ،
ان طبيعة النظام السياسي بعد ٢٠٠٣ مصمم اصلا ليكون دولة عميقة بدلا من اعادة بناء دولة مؤسساتية تصلح لإدارة نظام ديمقراطي، فنظام المحاصصة اصلا مخالف للدستور الحالي ويساهم في الغاء المشاركة السياسية، فالمحاصصة بالأساس نظام تفتيت ، واذا كانت المحاصصة تقوم على نسب يتم توزيعها على اساس حجم هذه الطائفة او تلك وحجم هذه القومية او تلك ، فان نظام المشاركة الديمقراطي يقوم على التمثيل الحزبي وفق نتائج الانتخابات التي تعتبر تجسيدا للارادة الشعبية الحرة،
لا نظاما ديمقراطيا في العراق ، والبرهان الاعلى على ذلك هو حصر رئاسة الجمهورية بالاكراد وحصر رئاسة الوزراء بالشيعة وحصر رئاسة البرلمان بالسنة بناء على ( كمية) سكانية وليس بناء على ( نوعية ) سياسية ،
تم تعرضنا خلال الاحداث والوقائع والتطورات المأساوية الى غسيل دماغ منظم وممنهج وتحولنا الى رؤوس، لقد تم تجنيد الرؤوس بعد ان تمت عملية غسيل الدماغ، وهذه الرؤوس تشبه رؤوس لاعبي كرة القدم فهي بديل عن الأقدام فبدلا من ركل الكرة بالقدم على الارض تركل تلك الرؤوس الكرة في الهواء ،
سأضرب مثلا واقعيا على ما صرنا نعيشه اليوم في عالم من الكراهية والاحقاد ،
مثلا ، يناقشك احدهم ويرفض افكارك وآراءك ويطلب منك ان تتبنى افكاره وآراءه والا فانت عدو ويمارس الارهاب الفكري بإحالته الى التهم الجاهزة في رأسه ، فهو يطلب منك مثلا ان توافقه بان (صاد) قتل (سينا ) وحين تقول لا دليل حتى الان يقول لك اذن انت تؤيد صادا باعتباره قاتلا ، انه يملك عداء ايديولوجيا مع صاد لذلك فان كل عملية قتل في العالم لابد وان صاد هو الذي قام بها، واذا أبديت ادني اعتراض على هذه الفكرة اللامعقولة نشر كراهيته ومارس إرهابه الفكري وأخرجت من الوطنية والانسانية وارسلكومعنويا الى دهاليز التعذيب والجلد وتقرير المصير
هذا ما حدث فعليا وهو عالم سائد وشائع يطالبك باحترام رأيه على القاعدة الكاذبة ( الرأي والرأي الآخر) ولكنه لا يعطيك الفرصة لإبداء رأيك لانك اذا أبديته فانت ديكتاتور ومثير للمشاكل ومتعسف لا تتبنى رأيه باعتباره الرأي الذي يملك الحقيقة المطلقة ، والمشكلة انه يعتبر كل حقيقة هي وجهة نظر قابلة للنقض والإلغاء
ان احترام الرأي يتطلب عدة اشياء ، معقولية الرأي ومنطقته، واستنادا عل حقائق ووقائع وتسويغ واقعي، لكن الثقافة الحزبية الشمولية هيمنت على العقل العراقي بشكل عام، فالرأي في الثقافة الحزبية يعتمد على الولاء الايديولوجي والانحياز السياسي العاطفي ، فالرأي عند معظم العراقيين هو تكريس للظلامية وليس للتنوير ، لذلك فان جميع المفاهيم بلا استثناء ، مثل الدولة والمواطنة وسيادة القانون والتعددية واستقلال القضاء ومهنية الصحافة واستقلاللها والتمييز بين الثقافة والايديولوجيا وبين الحزبية والمواطنة وبين السياسة والقانون لا يتحقق ويتحول النقاش بين اقرب وأُقدِّم الاصدقاء الى عداوة تلغي ثلاثين او اربعين او حتى نصف قرن من الصداقة المصيرية،ان الثقافة الحزبية السائدة في العراق ثقافة شمولية احادية الرؤية وأحادية الوهم باعتباره يقينا ، وطوال سبعين عاما من الصراعات والنزاعات الايويولوجية العاطفية البعيدة عن الواقع والمسروقة والغارقة في الاوهام والتصورات النظرية تسربت هذه الاوهام والتصورات النظرية الوجدانية الى المجتمع لتقيمه وتحيله الى مجتمعرغير متصالح وغير موحد ، فالحلول نفسها منقسمة تبدأ من الاشتراكية هي الحل الى القومية هي الحل واخيرا الاسلام هو الحل، والحقيقة انه لا حل عند هؤلاء من طارحي الحل الوحيد فالحل يكمن في تحويل الواقع الى حل وليس في تحويل السياسة الى حل،