قراءة في اللجوء الانفرادي للتحكيم وفقا لأحكام اتفاقية واشنطن لسنة 1965
قراءة في اللجوء الانفرادي للتحكيم وفقا لأحكام اتفاقية واشنطن لسنة 1965
بقلم / د. ايناس عبد الهادي الربيعي
تتعدد الوسائل التي يمكن ان يلجأ اليها أطراف العقود الاستثمارية لتسوية منازعاتهم التي قد تنشأ عند تنفيذ الالتزامات الناتجة عنها لذا تظهر الحاجة الى توفير وسائل محايدة وفعالة لتسوية تلك المنازعات وبما يتلائم وطبيعتها الخاصة الا ان التحكيم لاصق تلك العقود كصفة ملازمة باعتباره وسيلة مقبولة لتسوية النزاعات الناشئة عنها لكونه يعد ضمانة قضائية لحماية تلك الاستثمارات ، حيث عادة ما يختار المستثمر اللجوء الى التحكيم الذي بات يمثل القضاء الطبيعي في هذا المجال، أضف الى ذلك ما يتمتع به من سرية تتناسب وطبيعة العقود الاستثمارية .
يقوم اللجوء الى التحكيم بناء على تلاقي أرادة الأطراف بعرض النزاع القائم بصورة اتفاق مكتوب في بند مرفق في العقد الاستثماري يطلق عليه شرط التحكيم ، او اتفاق مستقل مكتوب عند نشوء النزاع يسمى مشارطة التحكيم ، وهو ما يعكس صورة تراضي الأطراف في اللجوء الى التحكيم كوسيلة لحل النزاع ، لكن ما مدى توافق ذلك مع اتفاقية واشنطن لسنة 1958 لفض منازعات الاستثمار وأجتهادات المركز الدولي لفض منازعات الاستثمار تبعا لذلك؟
يعد التراضي امام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار(CIRDI) الحجر الأساس لاختصاصه اذ يعد اتفاق الأطراف وموافقتهم الصريحة هو المعول عليه لعرض النزاع على المركز وفقا لنص المادة (25) في الفقرة (1) من الاتفاقية والتي ورد فيها شروط تتجسد في الموافقة الكتابية لصحة الرضا باللجوء الى التحكيم كما أسلفنا مسبقا، وقد بينت المادة (25في فقرتها الرابعة ) المقود بالتراضي بنصها على انه : ( تستطيع كل دولة متعاقدة عند تصديقها او انضمامها الى هذه الاتفاقية او في أي وقت لاحق ان تبلغ المركز بنوع المنازعات التي تقدر انه يمكنها او لا يمكنها ان تطرحها على المركز لتسويتها بالتوفيق او التحكيم وعلى السكرتير العام ان ينقل فورا هذا التبليغ الى جميع الدول المتعاقدة ، ولا يشكل هذا التبليغ الموافقة المطلوبة طبقا للفقرة الأولى) وطبقا لما تقدم فان التبليغ الذي تقوم به الدولة لا يعتبر تراضي بالمعنى الوارد في الفقرة الأولى من المادة (25) اذ يعد مجرد اعلان من الدولة المتعاقدة تحدد فيه أنواع المنازعات التي ترتضي أحالتها الى المركز، وكأحد التطبيقات على ذلك نجد ان إسرائيل قامت باخطار المركز بان اختصاصه يمتد فقط الى منازعات الاستثمار المتعلقة بقانونها الخاص بتشجيع الاستثمار في رؤوس الأموال ، اما المملكة العربية السعودية فقد استبعدت منازعات النفط ، وكذلك غينيا التي أستبعدت منازعات الاستثمار الخاصة بالموارد الطبيعية والمعادن .
لكن بعد العام 1997 استحدثت صورا جديدة للتراضي للجوء الى المركز لم يتم اعتمادها مسبقا تتمثل في التشريعات الداخلية والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالاستثمار، وقد تجلت الصورة الجديد الأولى والمتمثلة بالتشريعات الداخلية في قضية (SSP)بين جمهورية مصر العربية وشركة جنوب الباسيفيك) حيث تقدمت الشركة منضمة اليها الشركة الام بتقديم طلب تحكيم امام المركز الدولي (CIRDI) لطلب التعويض عن انشاء مجمعين سياحيين على الرغم من كون بنود العقد ما يشير الى عرض النزاع للتحكيم امام المركز، حيث أسست الشركة طلبها وفقا لأحكام المادة (8) من القانون رقم (43) لسنة 1974 المتعلق باستثمار المال العربي والاجنبي ، والتي تنص على انه : ( تتم تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ أحكام هذا القانون بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها مع المستثمر او في أطار الاتفاقيات السارية بين الدول ومواطني الدول الأخرى التي انضمت اليها مصر بموجب القانون رقم (90) لسنة 1971 في الأحوال التي تسري فيها).
حيث قامت مصر بتقديم دفوعها بعدم اختصاص المركز لعدم وجود اتفاق كتابي باللجوء الى التحكيم وفقا لأحكام المادة (25/1) من الاتفاقية ، أضافة لقيام مصر بسحب ترخيص الشركة طالبة التحكيم وتبعا لذلك فلم تعد خاضعة للقانون المشار اليه انفا، مع الدفع بعدم كفاية أشارة نص المادة (8) من القانون المصري لانعقاد أختصاص المركز،في حين تمسك المركز باختصاصه في نظر النزاع لثبوت رضا الدولة بذلك وفقا لنص المادة ()8) انفة الذكر والتي تشير بشكل صريح قبولا باللجوء الى التحكيم امام المركز وفقا لنص المادة (25/1) من الاتفاقية، ومن هذا المنطلق عدلت مصر المادة (8) في قانون الاستثمار رقم (230) لسنة 1989 بما أوردته في نص المادة (55) منه والتي تنص على انه : ( دون الاخلال بالحق في اللجوء الى القضاء المصري يجوز تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ أحكام القانون بالطريقة التي يتم الاتفاق عليها مع المستثمر ، كما يجوز الاتفاق بين الأطراف المعنية على تسوية هذه المنازعات في أطار الاتفاقيات السارية بين جمهورية مصر العربية ودولة المستثمر ، او في أطار اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى التي أنضمت اليها جمهورية مصر العربية بالقانون رقم (90) لسنة 1971 وذلك بالشروط والأوضاع وفي الأحوال التي تسري فيها هذه الاتفاقية).
وفي السياق ذاته عرضت على احدى محاكم التحكيم في المركز نص المادة (8) من قانون الاستثمار الالباني لسنة 1993 والتي تنص على انه : ( توقع دولة البانيا بمقتضى هذا القانون على تقديم المنازعات الى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى المبرمة في (18 آذار من العام 1965) وتبعا لذلك فقد اقرت المحكمة باختصاصها في قضية (TRADEX HELLAS C/ALBANIE) حيث أوضحت المحكمة بإمكانية الموافقة على التحكيم بإجراء انفرادي من قبل الدولة المتعاقدة بموجب قانونها الداخلي حيث ترتب اثارها بمجرد طلب المستثمر التحكيم امام المركز.
وتأسيسا على ذلك نجد ان محاكم المركز عدت التشريعات الداخلية للدول إيجابا ملزما باللجوء الى التحكيم في العلاقة مع المستثمر الأجنبي، حيث ان تفسير تلك المحاكم للنصوص القانونية والاتفاقيات الخاصة بتسوية منازعات الاستثمار في ظل انعدام الاتفاق بين الطرفين على اللجوء الى التحكيم ورضا المستثمر من خلال لجوئه المنفرد الى هيئات التحكيم يعد ابتكار لوسيلة غير مألوفة للتراضي بناء على نص تشريعي داخلي او اتفاق دولي، الامر الذي نتج عنه عدة صور مستحدثة للتراضي ونتائج قانونية مترتبة عنها، فما يتعلق بالصور المستحدثة للتراضي ظهرت حالات التشكيك في قابلية النزاع للحل عبر التحكيم من خلال الدفع بعدم أهلية الدولة في اللجوء الى التحكيم والدفع باختصاص القضاء الوطني لنظر النزاع الذي تكون الدولة طرفا فيه مع تحديد القضاء المختص بنظر تلك المنازعات والتي توكل الى القضاء الإداري عادة وتطبيقا لذلك قضية ( Icori Estero) بين الشركة الإيطالية وشركة الكويتية للتجارة والمعاملات الخارجية والاستثمار حيث قضت حيث ذهبت محكمة استئناف باريس في 13 حزيران من العام 1996 الى ان : ( أيا ما كان أساس الحظر المفروض على الدولة لإبرام اتفاق التحكيم فإن هذا الحظر يبقى قاصرا على العقود التي تتم وفقا لنظامها الداخلي وبين تلك التي تتعلق بالنظام العام الدولي فوفقا للأخير يمتنع على الدولة ان تستفيد من أحكام قانونها الوطني او من قانون العقد للتخلص فيما بعد من اتفاق التحكيم ، فما دام هذا الاتفاق قد ورد في أطار عقد دولي وتم ابرامه وفقا للحاجات والشروط التي تتفق مع عادات التجارة الدولية والنظام العام الدولي فهو اتفاق صحيح وله الفاعلية الكاملة) .
اما التحجج بتعديل أحكام القانون الوطني بعد الاتفاق على التحكيم وانه أصبح لا يجيز مثل هذا الاتفاق فنجد ان قضية (ELF Aquitaine) ضد الشركة الوطنية الإيرانية للبترول التي تتلخص وقائعها في أصدار المجلس الثوري في الجمهورية الإسلامية بعد قيام الثورة الإسلامية قانونا تم بموجبه انشاء لجنة خاصة تملك سلطة ابطال كافة عقود البترول التي تراها اللجنة غير متماشية مع القانون الإيراني الصادر عام 1951 والذي تم بموجبه تأميم النفط في ايران ، وتطبيقا لذلك عمدت اللجنة المشار اليها انفا الى ابطال العقد المبرم مع الشركة المذكورة الامر الذي دفع الشركة الفرنسية الى اللجوء الى التحكيم اعمالا لشرط التحكيم المبرم بين الطرفين في العقد الذي تم أبطاله وقد بين المحكم المنفرد ( Bernhard Gornard ) الى القول باختصاصه بنظر النزاع من خلال: ( ان من المبادئ المعترف بها في قانون التحكيم الدولي ان شروط التحكيم تستمر لتكون نافذة المفعول على الرغم من المعارضة من جانب احد الأطراف في ان العقد المتضمن شرط التحكيم هو غير شرعي وباطل) .
ومن هذا المنطلق فانه لا يجوز للدولة الدفع بعدم قابلية النزاع للتحكيم بعد قبول شرط التحكيم بحجة عدم الاهلية لإبرام اتفاق التحكيم او عدم قابلية النزاع للفصل فيه من قبل المحكمين حيث تم استخدام فكرة النظام الدولي العام للسماح بقابلية منازعات الدولة للتحكيم حيث ان الدفع بغير ذلك يتعارض مع النظام الدولي العام.
الا ان التوسع في اختصاص المركز الدولي تجاوز استخلاص التراضي بناء على التشريعات الداخلية والاتفاقيات الدولية التي تبرمها حيث برزت طرق لاسناد الاختصاص للمركز في حالات انعدام أي علاقة عقدية او تمسك المستثمر بشرط الدولة الأكثر رعاية ، وهو ما نجد انه يتناقض مع احكام الاتفاقية والتي نجد انها تشترط وجود اتفاق لانعقاد اختصاص المركز وهو ما يتأكد في نص المادة (25/1) منها ، كما ان استخلاص الرضا على التحكيم من نص تشريع داخلي من شأنه ان يخل بمبدأ المساواة بين الأطراف لكون المستثمر وحده من يمكن له اللجوء الى المركز في حالة انعدام وجود العلاقة العقدية او القانونية بين الطرفين والذي يعكس رضا الدولة الصريح والاكتفاء الى الرضا الذي عبرت عنه الدولة تشريعها الداخلي او تعاقداتها الدولية وهو ما لا ينعقد معه الحق للدولة الحق في رفع الدعوى ضد المستثمر امام المركز، والتغاضي عن الاليات الأخرى التي تم الاتفاق عليها مسبقا لحل النزاع عند حدوثه بين الأطراف.
أدى اجتهاد قضاء التحكيم في منازعات الاستثمار الى اضعاف موقف الدول المضيفة للاستثمارات الأجنبية ولا سيما النامية منها فاللجوء الى المركز الدولي بات حصرا على المستثمر الأجنبي لتكون الدولة هي الحلقة الأضعف ودائما توضع في موضع المدعى عليه ، اذ نجد ان تلك الطرق في استخلاص التراضي مجحفة لما تحمله من عدم التوازن في مصالح الأطراف وانعدام المماثلة في طلب التحكيم الامر الذي اسهم في ظهور مشاكل عدة ومن ابرزها ان طلب التحكيم بات يشبه اللجوء الى القضاء الذي يتم بمجرد تقديم احد الأطراف لطلبه بعد ما كان الاجراء يتم باتفاق الطرفين وفق ما نوهنا عنه والوارد في نصوص الاتفاقية، وهو ما يدفع الى ان تتوخى الدول الحذر عند اعداد النصوص التشريعية المتضمنة للضمانات القضائية الممنوحة للمستثمرين الأجانب ووضع الضوابط المناسبة بشان اللجوء الى التحكيم ومحاولة تحقيق التوازن بين الطرفين.