الوقف الاتفاقي في دعاوى القضاء الإداري
الوقف الاتفاقي في دعاوى القضاء الإداري
إن الخصوم قد يتفقوا فيما بينهم على وقف إجراءات السير بالدعوى فيطلق على هذا الوقف بالوقف الاتفاقي نظرًا لدور إرادة الخصوم في تقريره. ويلجأ الأطراف إلى هذا الوقف حينما تعرض إليهم أسبابًا معينة تدعو إلى إرجاء نظر الدعوى مدة كافية لتمكنهم من تحقيق غرضهم المنشود في جو بعيد عن سوح المحاكم كما لو قرروا التصالح أو اللجوء إلى التحكيم أو أي غرض آخر مشترك، ويلجأ الأطراف إلى هذا الوقف تهربًا من عدم المجازفة في تقديمهم طلبًا يلتمسون فيه تأجيل الدعوى إلى أجل معين والذي قد لا توافق عليه المحكمة، ولذلك سمح لهم المشرع بوقف الدعوى لمدة معينة لتحقيق الغرض الذي ينشدونه، غير أن هذا الوقف لا تقر به المحكمة إلا إذا اتفق عليه جميع الأطراف في الدعوى سواء كانوا اطرافًا اصليين أو متدخلين.
ولقد نص المشرع العراقي على هذا الوقف في المادة (82/1) من قانون المرافعات المدنية النافذ بالقول: "1- يجوز وقف الدعوى إذا اتفق الخصوم على عدم السير فيها مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ إقرار المحكمة لاتفاقهم...".
إلا أن جانب من الفقه لا يؤيد تطبيق نظام الوقف الاتفاقي في مجال الخصومة الإدارية، لأنها تتعلق بالمصلحة العامة بالدرجة الأساس المتمثلة بمدى مشروعية التصرفات الصادرة عن الجهة الإدارية ومدى موافقتها للقانون، بالإضافة إلى أن هذا النظام قد يُضيع الفرصة على القاضي الإداري، لأن دوره يتمثل بالرقابة القضائية على تصرفات الإدارة، فمنح الخصوم الحق في وقف الدعوى من شأنه أن يقوض السلطة الرقابية للقضاء الإداري على أعمال الجهة الإدارية. كما أنه غير متصور في نطاق الدعاوى التأديبية التي ينظمها القانون العام، فلا يجوز للموظف أن يتفق مع الجهة الإدارية المختصة على مثل ذلك إطلاقًا. وبدورنا فنحن ننضم إلى الرأي الذي يتفق مع هذا الجانب فيما يخص دعاوى قضاء الإلغاء على أعتبار أن الخصومة فيها تتحرر من وصف الخصومة الشخصية المعروفة في القانون الخاص، وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية العليا بمصر حيث أقرت بأن "نظام القضاء لمجلس الدولة يأبى الأخذ بالنظام الاجرائي الذي تجري عليه المحاكم المدنية بوقف الدعوى اتفاقا، لتعارض ذلك مع طبيعة المنازعة الإدارية التي يملك القاضي الإداري توجيهها وتهيئتها للفصل فيها وهو الأمر الذي يختلف عن طبيعة المنازعة المدنية التي يمتلكها الخصوم...".
ولكن نرى بالإمكان اتفاق الأطراف على وقف الدعوى الإدارية في دعاوى القضاء الكامل. وعلى الرغم من أن هذه الصورة من الوقف نادرة الحدوث في مضمار الإجراءات الإدارية، إذ يندر أن تلجأ الجهة الإدارية وتتفق مع الخصوم على تعطيل إجراءات نظر الدعوى لفترة معينة، إلا أنه يبقى وقوعه في مجال الإجراءات الإدارية ليس مستحيلاً بل هو نادرًا الحدوث بحسب نوع الدعوى الإدارية.
وعلينا أن نحذر بضرورة عدم الخلط بين هذا الوقف وبين ما يسمى بالوقف التعليقي والذي هو عبارة عن سلطة تقديرية منحها المشرع إلى القاضي يستطيع بموجبها إدارة الدعوى الإدارية عن طريق التريث أو الاستمرار في نظرها عندما توجد هنالك مسائل بدائية لها علاقة بها، فيقدر القاضي مدى جدية تلك المسائل على الحكم الفاصل في الدعوى. بينما الوقف الاتفاقي فهو لا يتحرك إلا إذا أتفق حوله الأطراف.
ولكن الصعوبة في التمييز بينهما بانت معالمها عندما أنشطر الفقه فيما بينه، حول منح السلطة التقديرية للمحكمة في إيقاف إجراءات الدعوى وقفًا اتفاقيًا. فقد ذهب رأي ليس بقليل ويمكن اعتباره الرأي الراجح في الفقه، إلى أن القاضي الناظر للدعوى هو أيضًا يمتلك السلطة التقديرية في وقف إجراءات الدعوى حتى وأن اتفق اطرافها على وقف السير فيها، فيستطيع أن يرفض الإقرار به إذا تبين له أن الاتفاق على الوقف يرمي إلى إطالة أمد النزاع، أو أن الدعوى وصلت إلى مرحلة لا تبرر الوقف.
في حين ذهب رأي آخر إلى أن المحكمة تلتزم بالإقرار بهذا الوقف، فلا يجوز له رفض الوقف الاتفاقي، لأن الخصومة هي ملك للخصوم وقد يرون ملاءمة تعطل إجراءات الدعوى لفترة زمنية مراعاة لظروفهم. ولأن الاتفاق عبارة عن تصرف إجرائي ملزم لأطرافه وإذا كان المشرع يستلزم إقرار المحكمة لهذا الاتفاق، فإنما ذلك يكون للتحقق من صحة الاتفاق ومدته وحسبنا من تدخل المشرع في هذا الشأن وتحديد المدة القصوى التي يجوز الاتفاق على وقف الدعوى خلالها.
وفي حقيقة الأمر أننا نميل إلى الرأي الثاني، فنراه الأصوب من وجهة نظرنا احترامًا واجلالاً لإرادة المشرع، لأن الأخير لو أراد منح القاضي السلطة التقديرية، لأعطاها إليه بالنص الصريح لا أن يسلك مسلك السكوت عن ذلك. وأن العبرة من تعليق صدور هذا الوقف على إقرار القاضي ما كان إلا من أجل تحديد الوقت الذي يبدأ منهُ احتساب المدة التي حددها المشرع وهي أن لا تتجاوز (ثلاثة أشهر)، وهذا واضح من صراحة نص المادة (82/ف1) من قانون المرافعات بـ "مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ إقرار المحكمة لاتفاقهم". إذن فالقاضي ليس له الحق في رفض الموافقة على طلب الخصوم بإيقاف إجراءات الدعوى. بل أكثر من ذلك حتى وأن كان هدف الخصوم إطالة أمد النزاع فما دام القانون منحهم الفرصة في إيقاف خصومة الدعوى فأنهم يستعملون حقهم، وهذا ما يعبر عن بعض الفقه من أن الدعوى ملكًا لأطرافها وهم أدرى بمصالحهم. ومهما يكن من الأمر يجب على الخصوم أن لا يتعسفوا في استعمال ذلك الحق عن طريق اتفاقهم بإيقاف الدعوى من أجل المماطلة في النزاع، وفي هذا المقام نرى بأن النص يعاني من قصور تشريعي يجب تلافيه، فلم يعالج المشرع مسألة عودة الخصوم بالاتفاق مجتمعين على إيقاف إجراءات الدعوى مرة ثانية وثالثة واخرى كما فعل في حالة رد القاضي إذ هو أشار إليها ونظمها عندما يلجأ الخصم ويقدم طلبًا جديدًا يقضي برد القاضي بالرغم من رد الطلب الأول فلم يأمر المشرع حينها القاضي بالوقف بل أعطى إليه الحق في الاستمرار بنظر الدعوى.
فمن أجل حل هذه المسألة المثارة نفضل منح القاضي السلطة التقديرية عندما يتقدم الخصوم مجددا بطلب إيقاف الدعوى، فهاته السلطة ممكن أن تعين القاضي وتساعده في الوقوف على حقيقة توافر الأسباب الجدية للخصوم والتي دعتهم إلى تقديم طلب الوقف مرة أخرى بعد تعجيلهم إليها، وفي حالة رفض القاضي لطلبهم يستمر بنظر الدعوى، على أن يكون قرارهُ في تلك الحالة قابلاً للتمييز استقلالاً وبصورة مستعجلة.
نضيف إلى ذلك أن منح القاضي السلطة التقديرية إبتداءً يبعدنا من نطاق الوقف الاتفاقي ويدخلنا في صورة الوقف القضائي، حيث تضاف إلى جانب حالتيه الوقف التعليقي والوقف الجزائي وهذا ما لا يريدهُ المشرع باعتقادنا، فلو أراده لماذا أحجم النص عليه!