شيخوخة القانون مقاربات في المنظومة التشريعية العراقية

المقالات

شيخوخة القانون مقاربات في المنظومة التشريعية العراقية

جمانة جاسم الأسدي    

تنماز الدولة بالتطور والرقي كلما إنماز نظامها القانوني بذلك، لاسيما في المجال التشريعي، فتطورهُ مرآة لتَطورهِا.

اليوم نشهد تضخمًا تشريعيًا، بوجود قوانينٌ معمرة وقرارات مبعثرة متناثرة، أصبحت لا تلبي مستوى طموح مجتمعها الذي أحتاجها في وقتٌ معين، حتى أصبحت السمة الغالبة على علاقتها بالأشخاص المخاطبين بنصوصها والخادمة لهم يشوبها النفور الواضح للعيان، وبات جليًا تناول هذا الموضوع من قبل الكثير من المهتمين والعاملين والباحثين في المجال القانوني، بل وحتى من المهتمين في الشأن السياسي، فوصل الحال بتلك القوانين إلى مرحلة نطلق عليها "شيخوخة القانون" فماذا نعني بها؟

يمكننا أن نوضح هذا المصطلح بالقول بأنها تلك الفجوة التي يصل فيها القانون المشرع بنصوصهِ التشريعية الكلية، أو الجزئية إلى الشلل في سريانها، فهي لا تواكب تطورات الحياة، وليس بمقدورها أن تحكم ظروف تلك الحياة المتجددة كسرعة البرق بقبضة من حديد، فباتت معمرة حقًا، وما لاحق بها يرقع مثالبها من دون المساس بها، ومن ثم فإن هذه القوانين لم تعد تعكس رؤية المجتمع الحقيقية، ولا تلبي طموحاتهِ ورغباتهِ وتطلعاتهِ نحو مستقبل زاهر، تكون فيه الكلمة العليا للنص القانوني وما يحتاجهُ من أهتمام وليس للحكام وما يحتاجونهُ من الرفاهية والنصوص الخادمة لهم حتى يشبعوا رغباتهم وتضمن بقائهم في السلطة.

إن التشريع حتى يكون فاعلاً ومحققًا لأهداف المجتمع وطموحاتهِ لا بد له أن ينبثق من المجتمع ذاته، ويعبر عن ظروفهِ وأحوالهِ وعقيدتهِ وأخلاقهِ وقيمهِ التي آمن بها، ولذا كانت القوانين متباينة من بلد إلى آخر، بل ومن زمن إلى آخر في البلد ذاته، وفقًا للمتغيرات التي يمر بها ليحكم هذه الأوضاع الجديدة، وإلا تخلف القانون وأصبح عاجزًا عن تحقيق أهدافهُ، مما يؤدي إلى إضطراب حياة الأفراد، والإنفصام بين الواقع والقاعدة، فنكون أمام نصوصٍ قانونية لا ينفع معها أي تفسير، حتى بإتباع التفسير المتطور والذي نصّ عليه المشرع العراقي في قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979م بالمادة (3) التي ألزمت القاضي بإتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه. فأية حكمة تشريعية؟ وكيف نبحث عن حكمة المشرع الذي وضع ليتناسب مع مجتمعًا ما كان معبرًا عنه في ذلك الوقت، غير أنه الآن ومن المنظور العقلي لا يعبر عنه.

لقد غاب البرلمان عن دوره التشريعي منذ العام 1958م، غير أن دستور 1970م قد نص على تشكيل المجلس الوطني والذي تشكل فعلاً بصدور القانون رقم (55) لسنة 1980م، وكان من المفترض أن يكون هذا المجلس هو صاحب السلطة العليا في الدولة لكنه بات خاضعًا لهيمنة مجلس قيادة الثورة (المنحل) ورئيسه، وحتى من ناحية وظيفته التشريعية فهو لا يملك سلطات حقيقية، فقد حُرم عليه ممارسة دورهُ التشريعي مستقلاً.

التشريعات والقوانين حينذاك كانت تصدر بناءً على إرادة شخص واحد تسلط على مقاليد الحكم كافة، ولا تعلو إرادة الشعب في حكمه على إرادته بل هو لا يستند إلا لإرادته فهو اساس السلطة ومصدرها، وله مطلق التصرف، وكلمته كلمة القانون، وما البرلمان إلا مؤسسة لها هيكل شكلي ليس لها أن تعمل على إصدار بضع نصوص قانونية بصورة مستقلة من دون الرجوع إلى الجهة القابضة على السلطة حينذاك.

هذا كلهُ الذي تقدم على عكس ما جاء به دستور 2005م النافذ حاليًا، والذي نص على اعتبار الحقوق والحريات الاساسية كأسس لا يجوز تقييدها من جانب المشرع أو الإدارة وأن أجاز تنظيمها وفقًا للقانون أو ممارستها بصورة لا تخل بالنظام أو الآداب العامة وهذا طبيعي إذ أن الأفراد لا يستطيعون أن يتصرفوا بما يشاؤون انطلاقًا من مبدأ الحرية الشخصية فيذهبون بتصرفات تسبب ضررًا للمصلحة العامة، وحين ذاك نكون قد افتقدنا الغاية أو الحكمة التشريعية من وجود النصوص القانونية الضابطة، ولكن الحق بالحق يقال أن الدستور قد حظر المساس بجوهر الحقوق والحريات الفردية.

وحيث أجريت انتخابات المجلس في 15/12/2005م وأجتمع أول مجلس في تاريخ 16/3/2006م، واستمرت الانتخابات البرلمانية تجرى كل (4) سنوات، وها هنا نحن في الدورة الانتخابية الرابعة للمجلس ولغاية يومنا هذا لم تصدر لغاية الآن أية مراجعة شاملة للمنظومة التشريعية في العراق، فماذا ينتظر المجلس بعد مضي سبعة عشر عامًا منذ اجتماعه الأول ولليوم!

ولعمرنا إن القوانين لا تعاب بعمرها التشريعي فالقانون المدني الفرنسي صدر في العام 1804م وهو ساري المفعول إلى يومنا هذا مع التعديل على بعض مواده لتتوافق مع التطور الحاصل في فرنسا، وكذلك الحال ذاته مع الدستور الامريكي الصادر في العام 1789م النافذ والمعدل، فالقوانين كلما دار عليها الدهر أبتعدت عن الواقع شيئًا فشيئًا، وهنا يجب ان يلتزم من يمتلك الإرادة التشريعية بالتدخل ومعالجتها ليجعلها مواكبة لواقع المجتمع وتجاري ما يحيط به من ظروف، لا أن يلحقها بقرارات تعطلها وتقيدها وتشل بعضًا من نصوصها.

 كما إنّ الحال تغير بانحلال السلطة التي كانت تملك إصدار التشريعات بل وتملك إصدار القرارات التي لها قوة القانون، فأصدرت التشريعات وعدلت فيها الكثير بموجب قرارتها، لتعطل عددًا من النصوص وتعدل الآخر منها حتى أصبحت غالبية القوانين المشرعة الآن يشوبها الترقيع المتزايد، وهي إحدى عيوب التقنين بطبيعة الحال. غير أن معالجة هذا الأمر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظام السياسي فكلما كان القابضون على السلطة في الدولة يسعون وراء المغانم والمكاسب الشخصية كنا أمام تأخر واضح في تطور المنظومة التشريعية في البلاد.

ختامًا نقول إن الذي يعيشهُ العراق الآن فهو أمرٌ واضح إلاّ أنه غريب من نوعه أمام الثورة التشريعية التي تعيشها بلدان العالم أجمع، والمعروف أن التشريع هو إحدى وسائل تطور المجتمع، فأين هم ممثلينا (كـ: شعب) بعد أن قضينا أكثر من عشرين عامًا بعد سقوط النظام السابق، ونتساءل متى يتم الاهتمام بمراجعة المنظومة التشريعية من جديد لجعلها تنسجم مع واقع ما تعيشه المجتمعات المتطورة، وما وصلت إليه المنظومات التشريعية العربية والأجنبية، ومدى تناسب الأخذ بتطورات الرؤى التشريعية في داخل العراق بما لا يخالف النظام العام والآداب العامة للمجتمع.