الشخصنة في تكييف الدليل الجنائي واثرها على صحة الحكم القضائي

المقالات

أ.د زينب أحمد عوين            م.د نورس رشيد طه

كلية الحقوق _جامعة النهرين                    كلية الحقوق _جامعة النهرين

 

يقصد بالشخصنة : تفسير القاضي للظروف والأحوال الخاصة بالمتهم وتحليلها وفقاً لمفهومه الشخصي المقترن بالظن السيء الذي  يبعده عن مبدأي الحياد والموضوعية الواجب توافرهما في نفس القاضي عند تكييف الادلة المطروحة أمامه . إن الابتعاد عن هذين المبدأين من شأنه المساس بصحة الحكم القضائي , كون أن القاضي لم يستند في تحليله لظروف المتهم على الأدلة المنطقية والواقعية المطروحة , لقناعته المطلقة بأن السلوكيات السيئة التي اعتاد المتهم عليها , وعرفه الناس بها تجعله مقدماً و بشكلٍ دائم صوب الإجرام , وهذا التحليل خاطئ ؛ كونه لم يستند إلى دليل مادي , فلا يجوز للقاضي اثبات التهمة بحق المتهم بناءً على نظرته الشخصية تجاهه, لأن تلك النظرة لا يمكن أن تحل محل الدليل المادي , كون أن الدليل المادي هو المعيار الأساسي الذي يتم الاعتماد عليه ؛ في أثبات التهمة أو نفيها عن المتهم , هذا من جهة , ومن جهة أخرى لا يجوز للقاضي الحكم على بواطن الأمور وفقاً لمنظورها أو شكلها الخارجي ؛ لأن ذلك يمس وبشكل أكيد بحق المتهم في المحاكمة العدالة, ويقيد حريته لا سيما أن كان المتهم موقفاً بذمة التحقيق . وعليه لا يجوز للقاضي الحكم في دعوى تخلو من الادلة , و إنما يتوجب عليه في هذه الحالة أخلاء سبيل المتهم بكفالة أو بدونها بحسب طبيعة التهمة الموجهة إليه , ولا يجوز للقاضي توجيه التهمة للمتهم من دون دليل , أو كان هناك دليل إلا أنه يحتمل الظن ومشكوكاً في مصداقيته , لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم , و أن الحكم القضائي يجب أن يبنى على الحزم واليقين , فإذا ما قام القاضي بشخصنة الادلة وتكييفها بحسب وجهته الخاصة , ومن دون تمحيصها و احالتها إلى ذوي الاختصاص فهنا سيكون القاضي منحرفاً في مسلكه , مخالف لمبادئ العدالة الجنائية , مجانباً لغاية المشرع المبتغاة من تطبيق القانون الجنائي , مثال ذلك :  أن يحكم القاضي على المتهم بالفساد بناءً على سمعته غير الحسنة , كونه يتسم بصفات غير حميدة , ومن دون أن ينظر بدليل براءته , لاعتقاد القاضي بأن الدليل مزور , وقد تولد هذا الاعتقاد نتيجة للشخصنة المغلوطة التي كونها القاضي عن المتهم بناءً على سوء خلقه , ومادام أن المتهم سيء الخلق فسيكون بإمكانه تزوير الدليل لإثبات براءته  إلا أن موقف القاضي من المتهم و شخصنته للأمور غير صحيح , لأنه يجب عليه التأكد من صحة الدليل , عن طريق إحالته إلى الخبراء المختصين ؛لأثبات صحته من عدمها, و قبل أن يحكم على المتهم بالفساد من دون دليل , وإذا ما كان القاضي متعمداً شخصنة الأمور وتكييف الدليل بحسب هواه , فبتقديرنا يجب أن يكون مسؤولاً عن ذلك التصرف كونه قد ابتعد عن الحياد والموضوعية في تكييف الدليل المعروض أمامه . كون أن الشخصنة من شأنها القضاء على حقوق المتهم , وتجعله فرداً من دون حقوق وهذا يتعارض مع مبادئ الدستور ونصوص القانون الجنائي .فلا يجوز للقاضي الحكم على المتهم وفقاً لنظرته الشخصية التي كونها عنه , سواء بعلمه الشخصي أو نتيجة التوسط لديه , لأن الشخصنة الافتراضية تجعله في موضع القاضي المتسلط الجائر المنكر للعدالة .  و تختلف الشخصنة عن الفراسة , ويقصد بالفراسة توقع الأمر قبل حدوثه سواء كان سلبياً أو ايجابياً , و الفراسة مصدرها قوة الإيمان وهي هبة يوهبها الله لعباده المؤمنين وقد أشار نبينا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم إلى الفراسة بقوله " اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله " وتلا قوله بقوله تعالى " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ"., وقد وردت الفراسة في القرآن الكريم في ثلاثة صور : الصورة الأولى تتعلق بقول العزيز لامرأته فقد قال لها  " أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا" والصورة الثانية تتعلق بقول ابنة شعيب لأبيها إذ قالت له " اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" , والصورة الثالثة تتعلق بقول امرأة فرعون , إذ قالت " قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا" ويتضح من هذه الآيات أن الفراسة يقصد منها تمني الخير أو تأمله  . أما الشخصنة فهي تختلف عن الفراسة كون أن الشخصنة قوامها سوء الظن , و أن المقصود منها تمنى الشر أو تأمله , ومصدرها اغواء الشيطان للإنسان , فيسيطر على افكاره ويؤثر عليها ويوجهها صوب الطريق الخاطئ , مع العرض أنه في الصورتين المذكورتين ( الشخصنة والفراسة ) لا يجوز للقاضي الحكم بموجبهما لأنهما يبعدان القاضي عن الوصل إلى مصدر الحقيقة , و بالنتيجة فإنهما يؤثران على صحة الحكم القضائي ويعرضانه للنقض .  كما أن الشخصنة تختلف عن مبدأ تفريد العقوبة , ويقصد بتفريد العقوبة الحكم على الشخص بالعقوبة التي تناسب حالته وظروفه , وقدرته على التجاوب مع تلك العقوبة بغية في إصلاحه وتقويم اعوجاجه , و أن مبدأ التفريد مصدره قانون العقوبات , وهو مبدأ يسري على جميع الجناة كل بحسب طبيعة سلوكه وكيفية ارتكاب , والتفريد يشمل حالات التشديد و التخفيف و الإعفاء , إما الشخصنة فمصدرها الاغواء الشيطاني المسيطر على النفس البشرية الأمارة بالسوء , و أن الشخصنة هدفها إيقاع اللوم على الشخص المعني و اخضاعه للعقوبة من دون وجه حق .

وترد الشخصنة في ثلاثة صور وهي  :-

1- الشخصنة الموضوعية : وتعني عدم التزام القاضي بمبدأ الحياد والموضوعية في تقييم الدليل الجنائي المطروح أمامه والمتعلق في الدعوى المنظورة من قبله , والشخصنة الموضوعية تتعلق بموضوع الدعوى ومثالها , أن يحكم القاضي على (س) بناء على الشهادة المطروحة من (م) , وبذات الوقت يستبعد الشهادة كدليل في الحكم على (ن) مع أن (س) و (ن ) هم مساهمين في الجريمة بحجة أن (م) قد ذكر (س) ولم يذكر (ن) في شهادته العيانية ,  وهذا الحكم يتعارض مع المنطق فكيف لقاضي نزيه يتسم بالحيادية والموضوعية  أن يشخصن الدليل لمصلحة متهم دون الآخر , وهذا يشكل نوعاً من أنواع التمايز الذي يتنافى مع نص المادة (14) من دستور 2005 والتي نصت على  " العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الاصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي " .وعليه وبموجب هذا النص فأن الشخصنة في تقييم الدليل الجنائي يؤثر وبدون ادنى شك في صحة التقييم وبدوره يؤثر على التكييف القانوني الذي يمكن الطعن به أما المحاكم الاستئنافية أو التمييزية .    

  2- الشخصنة الظرفية : أي أن القاضي لا يلتزم الحيادية بالاستناد إلى ظروف الجناة  مثالها أن يعلم (هـ)  بأن (جـ ) يعمل خادم في منزل (ط) الذي تم الاتفاق على سرقته إلا أن ( ل) لا يعلم بذلك  , وقدم الدليل الذي يثبت صحة ادعائه , إلا أن القاضي لم يأخذ به بحجة منه بأنه ضعيف وغير مقنع فيحكم على جميع الجناة بالظرف المشدد للعقوبة , مع أن الدليل المقدم من ل كان صحيحاً ويتوافق مع المنطق , إلا أن القاضي شخصن الأمور بصور مغالطة للحقيقة نتيجة لاستنتاجه الخاطئ وتفسيره المغلوط لذلك الدليل ومن دون أن يحكم ضميره في تقييم ذلك الدليل .

3- شخصنة زمانية : أي بمعنى أن القاضي يشخصن الأمور خلافاً للحقيقة بالاعتماد على زمان ارتكاب الجريمة , فلا يرى بأن المتهم هو من ارتكب الجريمة , كون أنه وقت ارتكاب الجريمة مازال حدثاً على سبيل المثال , ويتضح من هيئته بأنه مهذب ومطيع فلا يجرأ على ارتكاب الجريمة وعلى الرغم من أن هناك دليل أثبات إلا أنه لا يتأكد من صحته فيحكم بإخلاء سبيله بناءً على شخصنته لظروف الجاني وطبيعته ومن دون الاستناد على دليل الإدانة الموجه ضده , أو على العكس من ذلك يحكم بإدانته بناءً على شكوى المتضرر من الجريمة  , وإن لم يكن هناك دليل لإدانته , و إنما قام بتشخيص الحالة وفقاً للفكرة السلبية المغلوطة التي ادلى بها المتضرر من الجريمة أمام القاضي التي بناءً دليل ضعيف كشكوى المدعي بالحق الشخصي ومن دون أن يقترن مع دليل آخر .  وقد نظم المشرع العراقي في المادة (234) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 المعدل مسؤولية القاضي عن اصدار الحكم الباطل نتيجة التوسط لديه , وقد نصت على إنه " يعاقب بالحبس وبالغرامة , أو بإحدى هاتين العقوبتين كل قاض أصدر حكماً ثبت أنه غير حق وكان ذلك نتيجة التوسط لديه " . ويتضح من هذا النص أن مسؤولية القاضي لا تثار إلا إذا وقعت جريمة التوسط لديه , أي بمعنى أن مسؤوليته موقفة على شرط تحقق جريمة التوسط , إما إذا صدر الحكم الباطل , ومن دون أن يكون هناك توسط لديه فلا يسأل القاضي عن جريمة إصدار الحكم الباطل , وهذا نقص تشريعي لابد من تلافيه , لأن القاضي هو بشر وبالتالي فهو غير منزه وغير معصوم من الخطأ , فقد تدفعه نفسه غير السوية إلى الوقوع في هاوية الإجرام . 

وعليه واستناداً إلى مبدأي الحيادية والموضوعية يجب على القاضي أن يعتلي بضميره إلى القمة تحقيقاً للعدالة , و أن يكون حكيماً , ذا قدرة على التحكم في مشاعره , مسيطراً على انفعالاته , و أن يكون بعيداً كل البعد عن استخدام الشخصنة كوسيلة للاقتناع القضائي بديلة عن الدليل المادي , لأن الشخصنة تخالف الاعراف والمبادئ القضائية المعمول بها , كونها تبيح الحقوق وتنتهك الحريات , فلا محلاً للعدالة في ضمير يملأه الشر والبغي والجور والظلم , كما يجب على القاضي أن يتبع الاسلوب القانوني السليم في ممارسة العمل القانوني , و أن لا تكون طلباته وعباراته غريبة عن ميدان العمل القضائي , وهذا ما قضت به محكمة التمييز الاتحادية / في قراراها المرقم 1235 / الهيئة الموسعة الجزائية  / 2019 , بتاريخ 30/6/2019 .