تعاقد الشخص مع نفسه

المقالات
مركز وطن الفراتين للدراسات الاستراتيجية
قد يتبادر في أذهاننا للوهلة الأولى هل من الممكن ان يتعاقد الشخص مع نفسه ، بان يتم العقد بواسطة شخص واحد في الظاهر ، فالإجابة عن ما يتبادر في الاذهان تتم بالرجوع الى القانون المدني التي أشار إلى تعاقد الشخص مع نفسه في ابرام التصرفات القانونية ، على اعتبار انه من الممكن ان تحل إرادة محل إرادة أخرى ، وهذا يقودنا الى إمكانية التسليم بحلول إرادة شخص محل ارادتي شخصين في ابرام عقد ما ، باعتباره اصيل عن نفسه ونائب عن غيره ، فقد عُرف تعاقد الشخص مع نفسه بانه ( التعاقد الذي يجمع فيه الشخص صفتين ، اما اصيلا عن نفسه ونائبا عن الغير ، أو نائبا عن شخصين مختلفين ) فمن الناحية الفنية ليس ثمة ما يحول دون انعقاد العقد ولا يتعارض مع جوهر العقد ويمكن ان يوصف كونه توافق ارادتين على الرغم من الذي تولى العقد شخص واحد ، الا انه قد عبر عن ارادتين ، إرادة البائع وإرادة المشتري ، ولكن اذا كان من الممكن تعاقد الشخص مع نفسه من الناحية الفنية لا يثير أي صعوبة الا انه من الممكن ان يكون الاعتراض على هذه المسألة من الناحية العملية ويكمن الاعتراض حول مسألة تضارب المصالح بين طرفي العقد ، فاذا تولاه شخصا واحدا سوف يكون متحكما في مصلحتين متعارضتين ، فاذا كان نائبا عن احد طرفي العقد واصيلا عن نفسه ، فان التعارض يكون بين مصلحته الشخصية ومصلحة الأصيل ، وهذا ما يشير الى خطورة مصلحة الأصيل ، واذا كان نائبا عن طرفي العقد ، فهو اما ان يغلب مصلحة أحدهما على مصلحة الآخر ، أو يعمل على التوفيق بين المصلحتين ، وهذا ما يشير الى معنى النيابة ، إذ أن وظيفة النائب هي ان يعمل على رعاية مصلحة الأصيل والدفاع عنها وتغليبها على مصالح الاخرين في حدود القانون .
لقد تطرق القانون إلى تعاقد الشخص مع نفسه بصورتين ، فالصورة الأولى ، تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره اصيلا عن نفسه ونائبا عن غيره ، اما الصورة الثانية هي تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره نائبا عن الطرفين ، وقد اختلفت الشرائع في مثل هذا التعاقد بين مبيح وبين محرماً على اعتبار ينظر لهذا النوع من التعاقد بعين الاتهام والريبة ، فموقف المشرع العراقي من هذا النوع من التعاقد هو الاباحة ولكن منع في حالات معينة هذا النوع من التعاقد ، بمعنى ان الأصل يجوز والاستثناء لا يجوز لذلك حدد في المواد ( 589، 591، 592) وهذه المواد المتعلقة بالوصي والقاضي والوكلاء ، حيث لا يجيز لهؤلاء ان يتولوا بمفردهم ابرام العقد أصالة عن انفسهم ونيابة عن غيرهم في التعاقد ، فالمشرع ينظر الى هذه الحالات بنظرة الشك والاتهام .
وبعيدا عن التشريعات والشرائع التي أباحت هذا النوع من التعاقد وحرمته في مواطن معينة ، والشرائع التي حرمته واباحته في صور بذاتها ، ونتجه نحو التعاقد مع النفس في أمور ومسائل أخرى ، وخصوصا نحن نسير في زمن كثرُت المعاصي وقل الالتزام بما ينبغي العمل به ، ومواجه التحديات التي تواجه المجتمع الإسلامي ، من جهل الذات وقيمتها ولكن يمكن لنا ان تتعاقد مع انفسنا في ثبيت القيم والمبادئ التي رسمها لنا الله سبحانه وتعالى والائمة المعصومين لضمان التقرب بها إلى الله ، فالقيم والمبادئ هي الأصل التي يجب ان نتعاقد مع انفسنا بها ،ولتثبيت عقودا صالحة وصحيحة وخالصة لله تعالى .
فالتعاقد مع النفس لابد ان يتميز بقوة إرادة الشخصية المسلمة وصفاء الروح والنفس بحيث تكون مخفية غير ظاهره وخالية من الرياء ، فالشخص لديه المكنة العظيمة التي اودعها الله فيه ليتعاقد مع نفسه للوصول الى درجة القرب من الله سبحانه وتعالى عن طريق الالتزام بما شرعه الله من تشريعات ، فالتعاقد يجب ان يكون وفق منهاج الشريعة الإسلامية ، فالإنسان قادر للسيطرة على نفسه والتحكم بها من خلال التفكر بما يرضي الله من أفعال ، فالاتفاق مع النفس هو بحد ذاته طاقة جبارة وقوة يستطيع بها تجنب الوقوع في المعاصي ، فالإنسان لم يولد متكاملا في عقله ، وهو بحاجة الى مزيد من انواع العقود ليصل الى درجة يكون فيها اقرب الى الله تعالى فالتعاقد مع النفس وقاية يجعله اكثر ثقة وقوة في نفسه .
ما احوجنا اليوم ونحن في ظل مجتمع يسوده الانحطاط وغياب الوعي الديني بكل التفاصيل ( اجتماعيا ، ودينيا ، واقتصاديا ، وسياسيا ) وما احوجنا الى تجديد عقودنا مع انفسنا وخاصةً القادة والمسؤولين والسياسيين وحتى الافراد العاديين لإعادة النظر في سلوكهم ، فهناك مؤشرا واضحاً يشير الى مستوى الانحدار في المفاهيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية .
فأول العقود التي يجب ابرامها مع النفس هو قول كلمة الحق ورفض الظلم وعدم السكوت عن احقاق الحق ونقول كلمة الحق ولو كره الكافرون ، كما يجب علينا ان نخشى الله في كل صغيرة وكبيرة ، ، وكذلك مساعدة الاخرين وخصوصا الفقراء والمساكين ، فضلا عن مجاهدة الشخص لنفسه من اجل اكتساب الاخلاق الحسنة ، كما له ان يتعاقد مع نفسه في ان يكون صبورا وهو الأساس الذي يقوم عليه حسن الخلق ، فالتحمل واللين وكظم الغيظ والاناة كلها عوامل تساعد على الصبر ،
كما يبدو لي إن من اهم أنواع العقود فضلا عن التي ذكرناها أعلاه ، هو محاسبة النفس حين ارتكابها للأخطاء وتكرارها ويجب ان نحاسب انفسنا على افعالنا الخاطئة حسابا عسيراً، وذلك بعدم العودة الى ارتكاب كل ما يغضب الله تعالى ، لا بل مراقبتها ، ومن ثم معاتبة النفس في كل يوم ، فلابد اتباع أسلوب الشدة مع النفس في حال تكرارها للأخطاء غير المرضية لله .
في كل مرة نقترح او نتأمل او نوصي ، على المشرع العراقي القيام او الإشارة او النص على موضوع معين أو فقرة معينة قد لا يتبادر الى ذهنه في حال وضع النص ، الا اننا في هذه المرة وتحديدا في هذا المقال يكون التوجه بالكلام نحو انفسنا لذلك ، نأمل من انفسنا ان نلتجأ الى تغيير جذري شامل من خلال التعاقد مع النفس بشتى أنواع العقود في المسائل التي تحمل القيم والمبادئ العليا والموسومة تحت عنوان ( لا لغضب الله ونعم لمرضات الله ) ، ونقترح على انفسنا الالتزام بكل ما جاء به القران الكريم من احكام والسير نحوها وتطبيقها في الواقع ، كما لنا ان نوصي انفسنا بالمشارطة ، والمراقبة ، والمحاسبة ، والمعاتبة .