الاختصاص / القانون المدني
مركز وطن الفراتين للدراسات الاستراتيجية
يتجلى مفهوم مبدأ سلطان الإرادة في القوانين ، ولم يقتصر الاعتراف بهذا المبدأ على القوانين الوطنية بل تبنته العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، فهو مصطلح قانوني يقصد به الحرية المتاحة للفرد في مجال تعاملاته وخصوصا في المجال القانوني سواء في الالتزامات ام العقود ، لان الإرادة قادرة على أن تنشئ التصرف القانوني وتحدد الاثار التي تترتب عليه ، فالحرية أساس النشاط الذي يظهر في الإرادة التي تنشئ العقد وتحدد اثاره وتختار ما تشاء من المصالح التي تلائمها ، فهو مبدأ يعد من أهم المبادئ القانونية التي منُحت للمتعاقدين فلهما حرية اختيار ابرام العقود وترتيب اثارها ، فضلا عن انه من النظم القانونية الثابتة فمعظم القوانين اشارت إلى هذا المبدأ بشكل صريح ، إلا ان هذا المبدأ لمْ يكن مطلقا ولكن ضمن حدود معقوله لغايات تحقيق التوازن ما بين الإرادة والعدالة والصالح العام .
اما المقصود بمبدأ سلطان الإرادة في الشريعة الإسلامية حيث بدأ بالظهور مع بداية الإسلام ونزول الوحي محمد (ص) ، وقد وصل مداه الى ان جعله الله أساس الدين كله ، قال تعالى ( لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصال لها والله سميع عليم ) وقال أيضا ( وقل الحق من بكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، وقال أيضا ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، وواضح من هذه النصوص القرآنية ان حرية الانسان وسلطان الإرادة هي أساس صحة الايمان بالله ، وبقية التصرفات من باب أولى لأنها أقل شأنا من الاعتقاد ذاته .
وعندما اعطى الله سبحانه للإنسان الإرادة ولكن هذه الإرادة تبقى محددة ، بما اعطا الله تعالى من القدرة والامكان ، وعليه يجب ان تستعمل تلك القدرة والإمكان لعمل الخير ، وبناء على مبدأ سلطان الإرادة في الانسان جاء التكليف من الله وصدرت الأوامر والنواهي ، لاختبار الانسان في ارادته ، وليميز الله الخبيث من الطيب فيظهر من يطيعه في أوامره ويظهر من يعصيه ، فيجب خضوع هذه الإرادة البشرية لمشيئة الله .
فقد اعترف القران والقانون بمبدأ سلطان الإرادة او حرية الإرادة والاختيار ، فقد زود الله تعالى الانسان الى جانب الإرادة الحرة القدرة على اتخاذ القرار بالعقل والبصيرة والفطرة التي تمكنه من التشخيص السليم والتمييز الدقيق ، فعندما يمتلك الفرد الوعي الكافي والقدرة الكافية على التشخيص فان إرادة الانسان تكون قادرة على التخلص من الظروف الاجتماعية مهما كان سلطانها وقوتها ، فقد خلق الله سبحانه وتعالى إرادة تمكنه من التصرفات التي يبغي مرضات الله و اتخاذ القرار نحو الصحيح ، فلا يكون الفرد عنصرا جامدا ومقهورا للمحيط الاجتماعي ، وعليه تكون ارادته هي الأصل وتدور في مساحة واسعة من الممكنات ، فالإرادة في الأصل حرة الا ان هناك مجالين يبدو لنا انها اخطر مجالين ترك فيهما للإنسان مطلق الحرية لا قيد عليها ، فالعلاقة بين الانسان والخالق علاقة حرة فاطلق له العنان في مجال الاعتقاد أي ( الكفر والايمان ) فالخطورة تكمن ان هذه العلاقة حرة لا يجبر الانسان على الايمان كما لا يجبر على الكفر ويتخذ قراره بحرية تامة ، الا انه يجب توجيه الإرادة الى كل فعل يكسب الانسان قبول الاعمال ، ويكون ايمانه بالله نابع من إرادة حرة مختاره .
والإرادة من وجه نظري ، تعني هي تلك القوة الباطنة القادرة على بعث روح العزم والتصميم في العمل الخالص لله ، فالإرادة ليست شيئا ماديا وانما هي قوة معنوية تبعث فيك روح بكل ما للقوة من معنى ، ولا يمكن للإرادة ان ترقى الا بالرجوع الى الله لتحقيق الأهداف والغايات ، فهي تعد ضبط لنفس الانسان وتصرفاته ، فضلا عن هي القدرة على مقاومة جميع ما يخالف احكام الله .
ولقد ترك لنا التاريخ مصداق للإرادة وسلطانها على الانسان فكان النبي ( ص) المثل الأعلى لقوة الإرادة والعزم الجبار ، فقد وقف صامدا امام كل التحديات وقاوم كل أفكار الجاهلية وتصدى بعزم وتصميم لكل الأعداء ، وناضل بإرادة جبارة في سبيل مبادئه وأهدافه ، حيث اعلن موقفه بقوله (( لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على اترك هذا الامر ما تركته ، حتى اموت او يظهره الله )) فكان قوله واضح وصريح في التعبير عن ارادته والتصميم القوي في تحطيم الاصنام واباد قوى الشرك .
ويمكن لنا ان نعبر عن الإرادة القوية بالرحلة الطويلة التي تتطلب الصبر والايمان والاستمرار للاستفادة من القدرات الذاتية وذلك بالتوجه نحو الدعاء والصلاة وقراءة القران وتفسير احكام الله لتطبيقها في واقعنا العملي ، ويجب ان نأخذ بنظر الاعتبار المصاديق التي تركها لنا التأريخ لتكون منهاجا للتطبيق ، لا سيما في يومنا الحاضر الذي نواجه الكثير من التحديات الذي يعيشها البلد بشيء من الانفلات والابتعاد عن المفاهيم القرآنية والاقتراب نحو ملذات الدنيا ، فهذه بالحقيقة تعد لنا دروسا وعبر ، وعليه يجب ان تكون سلطان ارادتنا موجه نحو الخير والصلاح ونحو كل ما يقربنا الى الله سبحانه وتعالى ، كما ان الاستمرار والاجتهاد بالتفكير والتأمل للعمل الصالح مرتبط بما يبذله الانسان من جهد ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق العلم والاختيار والإرادة القوية .
فالإرادة المكللة بالصدق والايمان هي في حقيقتها شجاعة في مواجهة العقبات وبدورها تؤدي حبس النفس عن مكروهاتها ،وتجاوز الأفكار غير المرغوب فيها وترك تنفيذها ، فالارتباط الروحي مع الله الناتج من الايمان الحقيقي والتقرب الى الله مع ارادة قوية صالحة هي ثمار الوصول الى الجنة ، فالمفروض ان نتسامى على سلبياتنا وان تتوجه سلطان ارادتنا الى كل ما يحبه الله ويرضاه .