تردي الذائقة الشعبية تهديد للتعايش المجتمعي

المقالات

تردي الذائقة الشعبية تهديد للتعايش المجتمعي 

حسيني الاطرقجي/ صحفي وباحث 


"لقد تحول العالم الى زمن علم بلا ثقافة تناسبت فيه عكسيا القيم والثقافات من جهة مع التطور التكنولوجي من جهة أخرى".. هكذا وصف الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري  في نظريته "الهمجية" العالم الحديث بعد ان هيمنت العولمة وفرضت رأيها على المجتمعات وتحكمت بصورة كبيرة بمجريات الحياة اليومية (الثقافة، الفنون، الاداب.. الخ) ويعتقد هنري ان تردي ذائقة الشعوب هو بداية منعطف جديد في حياة الامة تتشكل من خلالها طيف جماهيري كبير يحمل تصورات ومفاهيم خاطئة ويعتد بها ثقافيا. 
في لهجة أكثر قسوة، تحديدا مسمى "حيونة الانسان" لممدوح عدوان يرى الكاتب ان الوحشية والهمجية لدى المجتمعات هي نتاج منابع عدة ابرزها تردي ذائقة شعب ما، يصيبها بامراض نفسية عضال تؤدي الى انفصام عُرى التعايش المجتمعي من خلال ادارتها للظهر تجاه الثقافات الهادفة وتمسكها بالثقافات الهجينة الشعبوية، حتى انها تتخذها أمثلة ومقاييس في حياتها اليومية، وهذا ما ينتج في باديء الامر تنافر يتناهى الى مراحل الاشتباك الفكري والجسدي بين اطياف المجتمع والافراد، ويمكن تصنيف هذه الولادات المشوهة الى تهديد للامن القومي للبلد. 
في العراق تحديدا، فأن نظام الرثاثة في السياسة يتمظهر بانعكاسات على سلوك المجتمع، فالخطاب السياسي الرّث موُلِّد لخطاب مجتمعي رث ايضا على حد تعبير فارس كمال نظمي، وكما يقول تشرشل: "الشعب إبن الخطاب السياسي وصورة من صوره"، وفي حالة الحكومات المتشنجة المتصادمة داخليا تغيب الرقابة الحكومية عن نتاجات الثقافة والفنون ما يشجع بروز الافكار والطرح الخادش للذوق العام، وفي حالة أُخرى مقاربة تنُتج الدراما الاجتماعية بصورة مفرطة بالمثالية تكاد لا تلامس  ادبيات المجتمع العراقي، تفتقر الى محاكاة الوجدان الجماهيري حتى أنها تتحول الى حالة تندر وسخرية، حتى من قبل الطبقات البسيطة منهم، وهذا ما يستدعي نفورا ومقاطعة لهذه الدراما، السيناريوهات الغارقة بالمثالية وغيرها المثيرة للاوجاع الانسانية وجلد الذات  تثير النفور وعدم الرغبة في المتابعة. 
بالمقابل..  يتصاعد الخطاب الشعبوي الى صورة كبيرة جدا، نابعا من البرامج والمقاطع الفيديوية الساخرة والتي هي في واقعها طرح مسيء ومهاجم شرس للبنية المجتمعية الى حد ما، وتمتاز الاغاني والموسيقى بطابع فوضوي صخب وانفعالي بمفردات اقرب ما تكون للبذاءة يخلو من صور الادب والفنون ذات التاثير الوجداني، ويهيء الارضية النفسية الى اضطرابات في المفاهيم تُولد اضطرابات على ثقافة الشخصية وسلوكياتها، وبدأت الشخصية العراقية خاصة بعد ظهور مواقع التواصل بالتنميط بأنماط مغايرة للتقاليد السّويّة المحافظة، الامر الذي انتج امراضا مجتمعيا عززت التناشز المجتمعي وبرزّت شريحة تستقي ادبيات الحديث والحوار والامثال من نتاجات توصم بالمنفّرة.
الناس على دين ثقافاتهم، هذا التردّي في الذائقة هو بالمحصلة تردّي في الفكر وتعثر في صناعة اجيال وديمومة الزخم الثقافي للمستقبل، بالتالي يلتقي هذا الطريق أو على الاقل يسير بخطٍ متوازٍ مع التطرف المجتمعي، ما يُعسر بناء السلام ويعزز ثقافة الهمجية التي تصنع صدامات مجتمعية غير ملموسة أو رمزية تتكثف صورها حتى تصل الى حالات من تهديد التعايش والتّقبُل بين اطياف الجموع.
ملاحظة/ الامثلة والشواهد كثيرة على هذا المقال، لكن الاجدر اتجنب ذكرها  احتراما للذوق العام.